رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

 

أشرنا فى مقالنا السابق إلى أن فلسفة التنوير فى أوربا قد خاضت حربًا فكرية شرسة ضد تحالف الكنيسة مع السلطة السياسية القائمة آنذاك.

وفى مقابل رفض فلاسفة التنوير للاهوت التقليدى نجد أنهم قد بشروا بديانة جديدة هى ما يمكن أن نسميه «ديانة التقدم»، وهى رؤية جديدة للعالم قوامها: أن الإنسانية ستمضى قدمًا إلى الأمام، ولا يمكن أن ترتد مرة أخرى إلى الوراء.

وباستثناء جان جاك روسو يكاد جميع مفكرى عصر التنوير يلتقون حول فكرة تقدم الإنسانية، وهذا ما يشير إليه سيدنى بولارد بقوله: «إنه لممـا يـدعو للدهشة ذلـك القـدر العظـيـم مـن الاتفاق فى اتجـاه الـفـكـر والبداية والمقصد بين هذه المجموعة الكبيرة من الرجال الموهوبين المفكـريـن مـن جماعـة الموسوعيين وغيـرهـم مـن قـادة الـفـكـر مـن معاصريهم من أمثال فولتير ومونتسكيو وتورجو حتى روسو.

ولا نجـد شـبيـهـًا لـذلك الاتفـاق الفكـرى إلا عنـدما ظهـرت الماركسية... وهذا الاتفاق على نقطة البداية والهـدف جعلهم يتفقون كذلك فى التفاؤل المسرف بمستقبل جماعتهم إذا هى حكمها العقـل والعلـم... وكانوا متفقين على أن عصـرهـم قـد بـلـغ مـن الـحضـارة والتهذيب حدًا لم يصل إليه البشـر قـبـل ذلـك، ولـم تـكـن هنـاك بـوادر أو علامات تدل على أن ذلك المستوى سيصاب بنكسـة مـا، بـل علـى العكس من ذلك كان المنهج العلمى الذى بدأ يسـود كـل نـواحى الفكر والنشاط الإنسانى فى عصـرهـم يـدل على أن مثلهم الأعلى للمجتمع الصالح كان وشيك التحقق.

إن الأساس الذى قامت عليـه ديـانـة التقـدم عند فلاسفة التنوير هـو العقل، فقد كان ديدرو يؤمن بتقدم العقل البشرى، وبإمكانية قيام نظام اجتماعى يحكمه العقل. ويعتبر ديـدرو تقدم العقل البشرى دواء فعالًا ضد جميع أمراض المجتمع. وكـان واثقـًا مـن أن الحقيقة كفيلـة مـع الأيام بتحقيق كل ما تقتضيه مصلحة البشرية، وهو لا يوضح لنا كيف يتم ذلك، لكن كل ما يعرفه أن الحقيقة ستنتصـر دومـًا فى النهاية، وأنها ستظل تنتصر مع الأيام.

ويرى دى هولباخ أن نشر الحقيقة عادة ما يصطدم دائمـا بمعارضة الطغاة ومضطهدى الشعوب ويساعدهم على ذلك تخاذل الشعوب المضطهدة نفسها، لأن الشعوب كثيرًا ما تخشى الحرية وتنفر من العقـل وتهـرب مـن الحقيقـة وتقـدس القيم القديمـة، وتـدافـع عـن التقاليـد المتوارثة. ولا شك أن استسلام الجماهير للوهم ولإغواء الخرافة واللا عقل هو واحد من أهم العوامل التى تساعد على ترسيخ القهر وتخلف الحضارات والمجتمعات الإنسانية.

وقد بلغ الإيمان بالتقدم ذروته مع قيام الثورة الفرنسية التى برهنت على إمكانية امتلاك البشر لمصيرهم ومنحت الكثيرين الأمل فى أن العقل يمكن أن يتحقق فى التاريخ. والمفكر الذى استطاع أن يلخص فى فكره آمال وطموحات ذلك العصر بكل ثقة وطمـوح هـو «كوندرسيه» (1794-1743م) والمفارقة الغريبة والمؤلمة أن كوندرسيه المؤمن بالثورة والتنوير كـان هـو نفسـه أحـد ضحاياها، فقد دفعه الخوف من «روسبير» إلى الفرار للنجاة بحياته، ولم يجد سبيلًا سوى أن يختبئ داخل غرفة خلفية فى أحد المطاعم، ولكنه انتحر فى آخر الأمر حتى ينجو من مقصلة الطاغية. والمدهش أكثر أن يتناسى كوندرسيه قدره ويعكف وهو فى مخبئة على كتاب واحـد مـن أروع ما كتب فى موضوع القدم هو: « تاريخ تقدم الروح الإنسانى»!

وربما يكون ملائمًا لموضوعنا أن نختتم هذا المقال بهذه الرسالة التى كُتبت عام ١٧٨٤ على قبة مستديرة فى كنيسة القديسة مرجريت فى مدينة جوثا Gotha فى ألمانيا لتقرأها الأجيال القادمة ونصها:

«يشغل جيلنا أسعد دور فى القرن الثامن عشر. فالأباطرة والملوك ينزلـون مـن عـليـائهم الرهيبة، محتقرين الأبهـة والعظمـة ليصبحوا آباء وأصدقاء لشعبهم وموضع أسرار لهم. ويمزق الدينى ثويه الرهبانى لكى يظهر فى جوهره الإلهى. ويخطـو التنوير خطـوات كبيرة... الحقـد الطائفى والاضطهاد مـن أجـل الضمير، آخـذان فى الزوال. ومحبـة الإنسان وحرية الفكر تكسبان المكانة العليا. والعلوم والفنون آخـذة بالازدهار... الصناع والفنانون يدركون الكمال، والمعرفة النافعة تنمو بين جميع الطبقات. هذا وصف صادق لعصرنا. لا تنظروا مـن عـلٍ إلينـا إذا ارتفعتم أكثر مما نرى.

بل عليكم أن تعرفوا من الصورة التى رسمناها لكم مقدار ما جاهـدنا بشجاعة وقـوة لرفعكم إلى المستوى الذى أنتم فيه الآن ولتستطيعوا البقاء فيه. اعملوا الشىء ذاته لمن يخلفكم، وكونوا سعداء».