عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

توقفنا فى مقالنا السابق عند هذا السؤال: هل سقط مشروع الحداثة الغربية، وهل مات فكر التنوير؟ الإجابة فى كلمة واحدة لا. لماذا؟

لأن التسليم بتراجع أو هزيمة العقل الغربى لا يعنى اليأس من العقل ومن قدرة وفاعلية الإنسان من أجل تطوير وتحسين عالمه. إن هذا العقل الذى كان وسيلة الإنسان للتحرر ليس ملكًا للغرب وحده، إنه ملك للإنسانية كلها. إنه يُمثل ميراثًا مشتركًا لكل البشر. ولعل أهم ميزات هذا العقل هو أنه يملك القدرة على نقد الذات والموضوع معًا، أعنى أن لديه المقدرة على نقد الواقع، وعلى ممارسة فعل الانعكاس الذاتى ونقد ذاته. ويمكن قياس قوة أى ثقافة بقدرتها على نقد ذاتها، وأظن أن أكبر خطايا العقل العربى هو عجزه عن نقد ذاته ومراجعة أطروحاته ومسلماته!

ونقد العقل فى هذا السياق لا يعنى استبعاد العقل، إذ إن البديل معروف وهو العودة إلى أحضان الجهل والخرافة، والتسليم بعجز العقل عن الوصول لأى يقين، وهذا البديل مرفوض من جانبنا تمامًا. إن نقد العقل كما نفهمه هو تصحيح العقل من داخل العقل وعبر قوانينه ومبادئه. وهذا هو الأمل الحقيقى من وجهة نظري: أعنى أن نفتش عن وسيلة لإنقاذ العقل من داخل حدود العقل نفسه، ولذلك يقول «ماكس هوركهيمر» فى كتابه «أفول العقل»: «إذا كنا نعنى بالتنوير والتقدم تحرير الإنسان من الاعتقاد الخرافى بالقوى الشريرة والشياطين والمصير الأعمى، باختصار إذا كان الهدف هو التحرر من الخوف، فحينئذ تصبح إدانة ما يسمى الآن بالعقل أكبر خدمة يمكن أن يؤديها العقل».

إن هذه القوى السياسية والعسكرية التى تتصارع الآن من أجل أهدافها الخاصة سواء فى الغرب أو فى الشرق، التى تتشدق دائمًا بشعارات كاذبة وديماجوجية مثل حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية... وغيرها. هذه القوى ليس لها من هدف سوى أحلام الامبراطوريات الكبرى: أمريكا ومعها المعسكر الغربى تريد أن تنفرد وحدها بقيادة هذا العالم، روسيا بقيادة القيصر الجديد بوتين تحلم باستعادة أمجاد الامبراطورية القديمة. كلاهما لا يحلم بحرية وسعادة الإنسان، كلاهما يمارس أبشع صور العبودية والعنصرية التى عرفتها الإنسانية، كلاهما يتنكر لكل تراث التنوير، ويدير ظهره تمامًا للمبادئ التى قام عليها مشروع الحداثة الغربية: مبادئ الفردية والحرية الإنسانية والكرامة الإنسانية.

إن إخفاق مشروع فكرى فى تحقيق أهدافه المرجوة لا يعنى أن نعلن يأسنا منه بوصفه مشروعًا فاشلًا، ومن ثم فإن علينا أن نستبدله بالمشروع المناقض له. إن فشل الاشتراكية لا يعنى أن الرأسمالية هى سفينة نوح الجديدة، وانحراف الليبرالية عن مسارها لا يعنى أن الديكتاتورية هى البديل السحرى، وانتهاكات الأنظمة العلمانية لحقوق الإنسان لا يعنى أن الأنظمة الدينية هى الحل. فالمذاهب الفكرية والسياسية ليست أقراصًا مسكنة أو وصفات جاهزة نعالج بها أزمات ومعاناة الشعوب.

إن التراجع الجزئى لوعود الحداثة يجب أن يُفهم فى ضوء الشروط السياسية والاقتصادية التى أدت إلى هذا التراجع، وفى مقدمة هذه الشروط: الاستعمار، سيطرة آليات السوق، الرأسمالية المتوحشة، انتعاش الأفكار الفاشستية والنزوعات التعصبية، امتصاص دماء الشعوب الفقيرة، كل هذه العوامل... وغيرها أدت إلى ضلال العقل الحداثى، أو انحرافه عن هدفه، فثورة العقل الحديث التى قامت ضد الغباوة والقهر والخوف من المجهول، وضد القسوة والرعب وإرهاب الإنسان، هذه الثورة تتحول الآن إلى نوع من الثورة المضادة التى تحاول أن تغتال كل منجزات عصرى النهضة والتنوير، وتعود بالإنسان إلى حالة من البربرية الأولى ولذلك فإن تحرر العقل من عثراته مرتهن لدينا بالتحرر السياسى– الاقتصادى، ومن كافة القوى التى هدفها استغلال واستعباد الإنسان.

مرة أخرى فإن على العقل أن يقوم بتصحيح أخطائه بنفسه، أو كما يقول «بارسيفال» فى دراما فاجنر: «إن اليد التى أحدثت الجرح هى أيضًا التى تداويه».