رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نحو المستقبل

درجنا على أن ننظر للماضى على أنه الزمن الجميل، لكننى حينما أعود إلى الوراء أجد أننا نبالغ فى ذلك؛ فربما يكون الزمن الماضى جميلا بجمال ناسه وجمال أخلاقياتهم وهدوء طباعهم، نظرا لأن الحياة كانت أكثر طبيعية وبساطة من حياة اليوم، حيث كان ضوء القمر يضىء الدنيا ليلا والشمس الساطعة تضيئها نهارا، ولم يكن هناك من وسائل اللهو الكثير فكانت الفرصة متاحة للتأمل أكثر وكان للخيال دور أكبر فى الحياة الرومانسية للبشر، ولاشك أن كل ذلك كان يجعل من الناس أكثر طهارة وأكثر عفة ونقاء، كما كانوا أكثرتواضعا وحتى فى ملبسهم أكثر حشمة وشياكة مما هم عليه الآن!! وربما نقول أيضاً إنهم كانوا أكثر إنسانية وأكثر ترابطا وتعاونا وحبا لبعضهم البعض وخاصة فى المجتمع الواحد.. الخ.

لكن مع كل ذلك كانت الحياة أكثر صعوبة وأشد تعقيدا؛ فحينما تعود بى الذاكرة إلى أيام الطفولة فى الريف أتذكر كم كانت المشقة فى كل شىء، أتذكر على سبيل المثال أنه لكى نروى الأرض مع شح المياه وقلة الوقت الذى تأتى للفلاح فيه عبر الترع والمصارف كان أبى يضطر للذهاب فى منتصف الليل أو قبيل الفجر وسط الظلام الحالك ليجد الماء الذى يروى به، وفى بعض المرات كنت أذهب معه ممسكا بيده ولا أعرف أين اضع قدمى فنصطدم كثيرا بأشياء لا نراها لغياب القمر ونكاد نقع على الأرض من شدة الصدمات، وحينما نصل يشفق على ويجلسنى على ربوة عالية ويخلع عباءته ويضعها على رأسى ويغطينى بها ليحمينى من لدغ البعوض والحشرات. وكم كان يعود سعيدا بعد عودته وقد حصل على المياه الكافية لسقاية الزرع، كما كان هناك ما يسمى بالطنبور وهو آلة خشبية ترفع المياه من الترعة لمنسوب الأرض وكم كان مجهدا ويتطلب عضلات قوية للشخص الذى يتولى تشغيله!! وكم كانوا يذهبون بهذه الآلة الكبيرة ولا يجدون الماء الذى يرفعونه إلى الأرض!!

وكم كانت حياتنا التعليمية صعبة، حيث كان شيوخ الكتاتيب فى مرحلة ما قبل المدرسة يستخدمون «اللوح الاردواز»، ونظل نحفر على اللوح حرفا حرفا، والعصا و«الفلكة» التى تعلق فيها الأرجل فى انتظار من يخطئ!!، ولم تكن هناك مدارس فى الكثير من القرى ولا وسائل مواصلات تربط بين القرى والمدينة، ولذلك كنت أعتبر نفسى محظوظا لأن قريتى كان بها مدرسة ابتدائية وكان هناك أتوبيس متهالك يربط بينها وبين المدينة. أذكر ذات صباح وفى الأيام الأولى من ذهابى لكُتاب الشيخ محمد أنه أراد أن يبرز أمام زملائى الأكبر منى أننى سريع الاستيعاب والحفظ، فأخذ يسألنى وأنا أجيبه بسلاسة وسعادة، وما ان تركنا للاستراحة قليلا حتى التفت إلى أحدهم وضربنى على أذنى، وبعد عدة أيام من هذه الواقعة اكتشف والدى أننى لم أعد أسمع، فاضطر أن يذهب بى إلى طبيب المدينة، ولم يكن هناك وسيلة مواصلات آنذاك إلا قطارا يسير بالفحم وكم كانت الرياح التى تهب علينا من ذلك القطار المتهالك بلا شبابيك والدخان المنبعث منه يشكلان منظرا ويتركان إحساسا بالقشعريرة والخوف مازلت أشعر بهما حتى الآن!! أعطانى الطبيب دواء سكن الألم، لكنه لم يعد لى السمع فى هذه الأذن حتى الآن!!

أحكى ذلك ليعرف آباء وأبناء الحاضر السعيد كم أن الحياة تطورت وأصبح كل شىء أسهل وأسرع، وكم أصبحوا يتمتعون بحياة تكنولوجية مرفهة فيها خدمات حديثه فالمياه تأتيهم عبر المواسير والحنفيات وليس عبر الآبار والطلمبات، يشربونها فى أكواب وزجاجات جميلة وليس من «الزير والقلل»، يستقلون الاتوبيسات المكيفة والعربات الأنيقة للذهاب للمدارس والجامعات!! يستخدمون الحواسيب والأقلام بدلا من الأقلام الرصاص والكوبيا التى كنا نستخدمها قديما بعد أن تركنا اللوح الاردواز!!

لقد تطورت الحياة كثيرا بفضل التقدم العلمى والاختراعات التكنولوجية الحديثة التى ينبغى أن نحمد الله عليها ولانسيء استخدامها، لكننا للأسف الشديد نسيء استخدامها بالفعل، لدرجة أننا نتهمها بأنها علة انحطاطنا الأخلاقى وقد كتبت عن ذلك فى مقال سابق، بينما الحقيقة أن العيب ليس فى الزمن ولا فى الاختراعات الحديثة، وانما هو فى من يعيشون الزمن ومن يسيئون استخدام هذه الاختراعات التى سهلت حياة الإنسان وقربت بين البشر. ولعلنا ننصف زماننا ونستمتع بتكنولوجياته على النحو الصحيح بدلا من أن نلعنه قائلين: «فين أيام الزمن الجميل»!!

[email protected]