رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

أشرنا فى مقالنا السابق إلى أن ميلاد الحركة الدادية فى الفن التشكيلى قد ارتبط ارتباطًا عضويًا بميراث التقاليد العدمية، وفى هذا المقال نستكمل ما بدأناه فى مقالنا السابق.

الحق أن معظم النقاد والمؤرخين يميلون إلى وصف الدادية بأنها حركة موجهة ضد الفن، وأنها أضرت بتاريخ الفن أكثر مما أفادت، ولا أريد أن أتبنى هذه الرؤية، أو أن يكون حكمى قـاسـيـًا على هؤلاء الفنانين الذين اختاروا أن يرتدوا ثياب المهرجين، وراحوا يسخرون من كل شيء وأى شيء حتى أنفسهم! ربما نلتمس العـذر لـهـؤلاء الذين لم يكن بمقدورهم الاندماج، وفـقـدوا الانتـمـاء لهـذا العـالم التعيس الذى جردته ويلات الحرب من كل إحساس بالقيمة أو بطعم الأمـان. لهـذا قد يكون من الإنصـاف أن نعرض لكافـة الجـوانب السلبية والإيجابية لهذه الحركة الرافضة، وأن نتجنب كلما أمكن السقوط فى النظرة الأحادية الجانب.

والواقع أن الدادية عبرت عن موقفها العدمى بعدة طرق وأساليب مختلفة، تارة من خلال أنشطة وسلوكيات أفرادها، وتارة من خلال البيانات والتصريحات التى اشتهرت بها الحركة، ففى أحد بياناتهم نقرأ هذه الكلمات: «من الآن فصاعدًا: لا رسامون، ولا أدباء، ولا موسيقيون، ولا نحاتون، ولا أديان، ولا جمهوريون، ولا فلكيون، ولا إمبراطوريون، ولا فـوضـويون، ولا اشتراكـيـون، ولا جـيـوش، ولا شرطة، ولا أوطان، وأخيرًا كفانا من هذه الحماقات كلها. لا شيء، لا شيء، لا شيء».

ويكتب مونرو بيردسلى عام 1916»إن ما نسميه دادا هو أضحوكة مأخوذة من العدم.. لعب بفضلات حقيرة.. الدادية تحب العبث، وتعرف أن الحياة تتأكد فى الضد».

وفى رسائل جاك فاشيه التى طبعت بعد موته بعنوان «رسائل من الحرب» نجد الكثير من المقاطع والمقولات التى صارت شعارات الدادية مثل: «لا نحب الفن ولا الفنانين»، «فليـسـقط أبولينيـر» وترددت عبارات أخرى مثل: «لا نعرف من هو مالارميه». إن هذه الأقوال التى يمتزج فيها الجدل بالهزل هى تعبير عن استياء هؤلاء الأفراد من الفن بشكل عام، والتقليدى على نحو خاص، وتعبير أيضًا عن إيمانهم بأن كل شيء قد فقد قيمته ومعناه.

ولم تكتف حركة الدادية فى تعبيرها عن الموقف العبثى بالبيانات والتصريحات، بل استخدمت بعض الأساليب الغرائبية سواء فى مـجـال الفن التشكيلى أو المسرح، لذلك فـقـد عـملوا دائمًا على استثارة وجدان الجمهور، بل تعمدوا تحطيم الكثير من المسلمات والمقدسات الاجتماعية والفنية، فقد رسم دو شامب صورة الموناليزا ووضع لها شاربًا، وهو بذلك يسخر من هذا الرمز التاريخى الكبير، ويحطم هذا الفن الهالى، ويحدث نوعًا من الصدمة أو الدهشة لدى الجمهور. أما تزارا فرسم صورة لقرد وكتب عليها سيزان، حيث أن سيزان أيضًا كان يمثل حتى ذلك الوقت أسطورة الفن الحديث.

ولم يكتف الداديون بالسخرية من رموز الفن القديم، بل أدخلوا أسلوبا جديدًا فى الفن يقوم على فكرة اختيار بعض نماذج الأعمال الجاهزة لـتـحـل مـحـل الأعـمـال التى يشكلها الفنان، وهكذا نرى «بيكابيا» الذى كـان فـيـمـا سـبق رائدًا من رواد التـجـريد يصـور بصورة دقيقة للغاية مخططات هيكلية للآلات، لا لشيء سوى لإبراز السخرية من مخترعيها، وكذلك عمد مارسيل دو شامب إلى أخذ حاملة زجاجات من التى تصنعها المعامل بالجملة ومهرها بتوقيعه كما لو كانت أحـد منحوتاته الفنية، وفى عام 1917 أحـضـر دو شامب، واحدة من القطع التى توضع فى الحمامات (مبولة) ووقع عليها باسم مستعار هو ر.مت R.Mutt وأرسلها إلى معرض المستقلين فى نيويورك، لتعرض ضمن الأعمال الفنية تحت اسم «منهل» ولما رفض المعرض هذا الأثر وزع دو شامب منشورًا كتب فيه: « ليس من الأهمية فى شيء أن يكون السيد Mutt قـد صنع بيديه هذا المنهل أم لم يصنعه، إنما المهم هو أنه قد اختاره... فقد عمد إلى عنصر عادى من عناصر الحياة اليومية، ورتبه، وأبرزه بشكل يختفى معه معناه النفعى وراء الاسم الجديد، ووراء وجهة النظر الجديدة.. لقد خلق فكرة جديدة لهذا الشيء».

إن مثل هذا التـصـريـح هـو مـحـاولة لإعادة النظر فى مسألة الإبداع الفنى، فليس الأمر الجوهرى يكمن فى صنع العمل الفنى، بل فى اختياره، وبفضل هذا الاختيار يصبح أى شيء حتى ولو كان شديد الابتذال له ملامح الأعمال الفنية.

وللحديث بقية.