رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

تجليات ثقافية (1)

 

 

يعد الاهتمام بالهوية أبرز مميزات الشعوب الواعية، ويضمن لها البقاءَ والبناء والتعمير والتقدم فى مختلف المجالات، ويحفظها من مخاطر تلاشى الحضارة بالسقوط أو التبعية، خاصة فى ظل أطروحات تهدف إلى تذويب الهُويّات فى هُوِيّةٍ واحدةٍ لخدمة أيدلوجية بعينها بغرض السيطرة والزعامة، ومن هنا كان اهتمام الدولة المصرية كبيرًا بقضية الهوية والحفاظ عليها بصور متنوعة، والذى يتضمن الحفاظ على صورتها الحضارية أمام الذات والعالم، وكذلك الحفاظ على آثارها التاريخية، مع تجديد قِيَمِها المعرفية من خلال وصل الأجيال المعاصرة واللاحقة بالذين صنعوا لنا هذا التاريخ المشرف والقيم النبيلة.

ومن مظاهر الحفاظ على جمال هذه الهوية قيام الدولة بإنشاء وتجديد أحياء سكنية وغيرها لتكون لائقة ومناسبة لساكنيها وقاطنيها، فقامت بتطوير مناطق كثيرة، منها (فى مدينة القاهرة على سبيل المثال) منطقة سور مجرى العيون، والمدابغ، وشق التعبان، وعزبة الهجانة، وبعض أحياء القاهرة الفاطمية، ومنطقة ماسبيرو، وإنشاء المتحف القومى للحضارة المصرية بمنطقة الفسطاط، والذى ضم فى جنباته صفحاتٍ متجسدةً من تاريخنا القديم والحديث بصورة رائعة، وغير ذلك من الأعمال التى أُنجزت للحفاظ على مظاهر التعمير للقديم والحديث من الأماكن، لتتسق والهوية المصرية وقيمها وأخلاقها الممتدة عبر آلاف السنين، ولتكون لائقة بالإنسان المصرى ليحافظ بدوره على هذا الجانب المهم من الهوية. هذا بجانب حرصِ الدولةِ المستمر على صيانة وترميم دُورِ العبادةِ بشكلٍ يليق بمكانتها وتاريخها وقدسيتها، وبما يحافظُ على الهوية المصرية التى تشكّلت من تفاعل حضاراتها المختلفة والممتدة على مر العصور.

وكذلك يجب علينا جميعا الحفاظ والتعظيم لمعالم الهوية المصرية فى جانبها المعرفى والثقافي، من خلال التعريف بمآثرها العلمية والأخلاقية، وإنجازاتها التاريخية، حتى يتكامل الجانبان الحسى والمعنوى للهوية، لا سيما وأن مدينة القاهرة -التى هى موضوع حديثنا- قد تم اختيارها من قِبل منظمة الإيسسكو عاصمةً للثقافة الإسلامية للعالم الإسلامى لهذا العام 2022م، ففى ديسمبر 2021م أعلنت د/ إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة، ود/ سالم بن محمد المالك مدير عام منظمة الإيسيسكو انطلاقَ فعالياتِ الاحتفالِ بالقاهرة عاصمةِ الثقافة فى العالم الإسلامى لعام 2022م.

ومعلوم أن الإرث الثقافى لهذه المدينة العريقة قد أسهم بشكل كبير فى الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية وتطويرها، بما بُنِى فيها من المدارس العلمية وبما ظهر فيها من علماء كبارٍ فى مختلف العلوم الإسلامية والعربية أفادوا العالم أجمع بهذه المعارف، ما يجعل إحياء مآثرهم حقًا واجبًا علينا، كما يُعد أفضلُ سبيلٍ لاستلهام روح البناء والتقدم والريادة، فالله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِى الْأَلْبَابِ» (يوسف: 111) وقد جاء ثلث القرآن الكريم فى أخبار السابقين، إعلامًا بالأهمية القصوى لمعرفة التاريخ والاستفادة منه لبناء مستقبل مشرق.

ولذلك يدعو المسلم فى كل ركعة فيقول: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» «الفاتحة: 7» وهم الذين قص اللهُ علينا أخبارَ بعضهم فى القرآن الكريم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وكذلك يقول فى التشهد: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، ليكون مرتبطا بالصالحين وأخبارهم ومآثرهم فى كل أحواله، ما يكون له أكبر الأثر فى تكوينه وسلوكه، وهذا كله يؤكد الأهمية الكبرى للارتباط بالإرث المعرفى الذى هو لب الهوية وحقيقتها.

لذلك رأينا من الواجب علينا فى هذه المناسبة أن نلقى الضوء على بعض الجوانب من الهوية المصرية من خلال الحديث عن بعض المدارس العلمية التى تميزت بها هذه المدينة العريقة، وبعض أعلامها الذى أثرَوا الحياة العلمية والفكرية فيها وفى العالم الإسلامى أجمع، من خلال التعليم والتوجيه والتصنيف، فإن تجلية هذا التاريخ الثقافى والعلمى الذى حوته مدينة القاهرة لأمر مهم حيث يربط الماضى بالحاضر، ومنه تنطلق الأجيال القادمة بخطى ثابتة راسخة إلى بناء المستقبل بوعى وبصيرة.

ومن الموضوعات التى سنعرض لها فى الحلقات المعدودات التالية: التعريف بالمدرسة الكاملية وبالإمام المنذرى -أحد أبرز شيوخها- وهو صاحب الكتاب الشهير المسمى بـ«الترغيب والترهيب» والذى كان له دور كبير فى نشر علوم السنة النبوية المطهرة، ومحمد عز الدين بن عبد السلام عالم الفقه والتفسير واللغة وقاضى قضاة مصر فى القرن 13 م، وكذلك التعريف بالحافظ الكبير ابن حجر العسقلانى صاحب كتاب فتح البارى شرح صحيح البخارى الذى سارت به الركبان، وكذلك الإمام بدر الدين العينى صاحب كتاب عمدة القارى شرح صحيح البخاري، وابن خلدون صاحب العلم الشهير الذى وصف مدينة القاهرة بأنها «حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم».

ونستلهم من خلال صفحات هذا التاريخ الفكرى والثقافى دروسًا وفوائدَ تتصل بواقعنا الذى نعيشه، حتى نحسن الاستفادة من هذا التاريخ بما يناسب فى بناء المستقبل الفكرى والثقافى للأجيال القادمة، ونحاول كذلك ربط الماضى بالحاضر من خلال إبراز بعض سمات الهوية المصرية وقيمها النبيلة التى تميز بها المصريون عبر العصور، ما جعل مصر بلد العلم والحضارة والتسامح والمحبة والسلام على مر العصور بجانب كونه البلد الذى يصدر العلوم الإسلامية والعربية للعالم أجمع.