رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

العمل في الصحافة مقبرة للمبدع، ذلك أنه لا يتيح له الوقت لكتابة ما يحب، ويستهلك طاقته الذهنية في لهاث يومي تلتهمه المطبعة ثم تطلب المزيد. لم يكن إبراهيم المازني يتوقف عن الشكوى من الصحافة ومطالبها التي ترهقه، أما الموهوب الساخر محمد عفيفي «1922-1981» فإنه ينهمك في الدوامة بلا احتجاج مكتوب.

 ينتمي الكاتب الفذ إلى مدرسة السخرية العميقة الرفيعة التي تتكىء على ثقافة موسوعية جادة، غربية عصرية في المقام الأول، تتحول عبر لغته الموغلة في البساطة والسلاسة إلى فلسفة تحض على التفكير العلمي وإعمال العقل، وتوجه سهام النقد العنيف اللاذع لكثير من سلبيات الحياة الاجتماعية والثقافية التي تخاصم الحضارة وقوانين التقدم. مثل هذا التوجه لا يروق بطبيعة الحال لمن يبحثون عن الضحك الصاخب وليد تراث «القافية» والدعابات الخشنة الغليظة المنفرة المعبرة عن براعة التلاعب بالكلمات.

محمد عفيفي فيلسوف على طريقته الفريدة غير المسبوقة في الثقافة المصرية، ولا يقل في عمقه وتوهج موهبته عن مارك توين. يتأمل الحياة بكل ما فيها من صراعات وتناقضات ومفارقات، ثم يقدم رؤيته الجريئة بلا تعقيد متقعر، فما أيسر وصوله إلى القلوب والعقول. يبتسم القارئ، وربما يقهقه، لكن جوهر الفكرة الجادة لا يغيب أو يتوارى.

 في «سكة سفر» و»فنتازيات تاريخية» و»ضحكات صارخة» و»ابتسم من فضلك» و»للكبار فقط»، وغير ذلك من مؤلفاته رفيعة المستوى، يكتب عفيفي عبارات بالغة القصر، لا يزيد بعضها على عشر كلمات، لكنها لا تقل في عمقها المخفف بالمرح عن كتب تضم مئات الصفحات، وتظهر في نهايتها قائمة من المصادر والمراجع بعدد من اللغات، ما ينم عن نزعة استعراضية تشبه «عدة الشغل» عند صغار الحرفيين الخائبين!.

الكاتب الكبير قارئ محترف لفرويد، ويحظى الجنس في عالمه باهتمام خاص يطل دائمًا بشكل مباشر أو غير مباشر، ويندمج اهتمامه هذا مع القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يشتبك معها. الجنس عنده محرك للتاريخ، ونظرية التطور قيمة راسخة لا يمكن إنكارها أو إهمالها، أما الخرافات واسعة الانتشار فإنه يضيق بها وتستفزه، لكنه لا يندفع في الهجوم عليها وفضحها إلا بالقدر الذي يمكن تحمله والتسامح معه، في مجتمع تقليدي محافظ متعنت يرفع الرايات البالية ويراها جوهر وسر الوجود، والمجتمع نفسه يمارس سلوكًا حافلا بالازدواجية، يبتعد عن معطيات الالتزام الأخلاقي قدر ابتعاده عن الوعي بالمتطلبات الحقيقية للتقدم والتخلص من آثار العصور الوسطى.

 الكثيرون من قراء كتاباته الصحفية يجهلون أنه روائي وقصصي متمكن، ولا يعرفون أنه أصدر قرب نهاية الأربعينيات مجموعة قصصية تحمل عنوان «أنوار»، تضم قصصا مكتوبة بالعامية من أولها إلى آخرها، وفي مقدمتها المكتوبة بالفصحى بالغة العذوبة ما يكشف عن هواجس التطلع إلى أدب مختلف يساير روح العصر ويعبر عن مقومات وسمات الشخصية المصرية في مرحلة التحول.

 لا بد أن قراء «التفاحة والجمجمة» و»حكاية بنت اسمها مرمر» يشعرون بالأسى لأن الموهوب صاحب اللغة المتميزة والخيال المحلق لم يقدم إلا القليل من الإبداع الأدبي الخالص. لا غرابة أن يكون من الأعضاء المؤسسين في شلة «الحرافيش»، ومن الأصدقاء المقربين لنجيب محفوظ. إنهما مختلفان للوهلة الأولى، لكنهما يتكاملان ويتناغمان.

 يموت عفيفي على مشارف الستين متأثرا بالمرض الخبيث الذي لم يمهله طويلا، لكنه يكتب قبل موته «خبرا» قصيرا ينعي به نفسه، ويقول للقارىء إن الأمر قد يكون مؤسفا محزنا، لكنه لا يستدعي الإسراف في الأسى. يأبى إلا أن يغادر الدنيا ساخرا متشبثا بالاختلاف عن السائد الشائع، كأنه يكتب آخر سخرياته اللاذعة العميقة.