رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

 

فى طليعة الصف الأول من كتاب المسرح المصري، يقف شهيد القهر والاضطهاد والتآمر والإهمال محمود دياب «1932-1983»، فهو من أبدع «الزوبعة» و»ليالى الحصاد» و»الهلافيت» و»باب الفتوح» و»أهل الكهف 74» وغيرها من الروائع، فضلا عن روايتين من علامات الرواية المصرية :»الظلال فى الجانب الآخر» و»طفل فى الحى العربي».

مثل زرقاء اليمامة  يتقن دياب القراءة المبكرة للتحولات الاجتماعية والسياسية قبل وقوعها، وسرعان ما يترجم وعيه النظرى الثاقب إلى مسرحيات متقنة البناء، سلسة اللغة، عميقة الفكر، ذات شخصيات متماسكة. هكذا يكتب «رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام» بعد أسابيع قليلة من توقيع اتفاقية فض الاشتباك، ثم يقدم رائعته «أهل الكهف 74» كأنه يعايش ويرى ما سوف يكون.

فى الحكاية الأولى من «رجل طيب فى ثلاث حكايات»، يتوافد الغرباء الذين لا يشربون القهوة، ويُحاصر الرجل الطيب ساقطا فى أسر وحدته وفرديته. آن له أن يعترف بما يكتمه فى نفسه :»إن البيت واسع وموحش. فقد رونقه القديم ونهشت الرطوبة جدرانه. بل إنى لأمضى ساعات قبل أن يغلبنى النوم كل ليلة. أنصت إلى هرولة الفئران وهى تتسابق فى ظلامه.. وأخشى دائما أن أضيء النور فأراها.. أكتفى بأن أستمع إلى حركتها حتى أنام».

تتغير الحياة وتفقد مذاقها الجميل، فالغرباء هم من يتحكمون فى الإيقاع، والغربة تستفحل، وكلمات دياب القديمة-الجديدة تزيد الرؤية وضوحا. يرى ما لا يراه قصيرو النظر، ويحذر من نصر ذى جناح واحد، وينبه إلى خطورة وشراسة من يتهيأون للوثوب على ما تبقى من لقيمات الفقراء الذين دفعوا الثمن فادحا فى سنوات الحرب والقحط، وداستهم الأقدام الطفيلية الغليظة بلا رحمة فى زمن السلام.

أزمة البطل الفرد عند دياب هى أزمة المجتمع فى عمومه، وبهمسات قوية حانية يسعى إلى إيقاظ النيام والغافلين. يتألق الكاتب عظيم الموهبة منذ أواسط الستينيات فى القرن العشرين، ويُحاصر إلى درجة الاختناق والموت فى النصف الثانى من السبعينيات، فلم تعد الساحة تتسع إلا لمن يهرجون ويسفون ويبالغون فى الابتذال إلى درجة التقزز. كانوا يتفننون فى إيلامه وإيذاءه بتفاهتهم وتهافتهم، ويسقط شهيدا فى معركة تخلو من التكافؤ وشرف القتال النبيل.

كان المسرحى الكبير الجاد الملتزم يراهن على لقاء المثقف والزعيم، ويحلم بأن يهتم صلاح الدين وأمثاله بالواقع الاجتماعى الذى يعيشون فيه. الانتصار على أعداء الخارج دون الداخل ليس كافيا، والبطولة الحقيقية فى اتحاد الفكر والفعل، الحلم والواقع، الشعر والسيف. الفكرة المحورية فى «باب الفتوح» هى التوق إلى المزج بين الوطنى والاجتماعي؛ تحرر الإنسان والأرض معًا.

عن ثلاث روايات للعبقرى الروسى فيدور دوستيوفسكي، يعد محمود دياب ثلاثة أفلام متقنة البناء عميقة الفكر، لكن المخرج حسام الدين مصطفى لا يرقى إلى مستوى المعالجات التى يقدمها الكاتب الكبير، ويشتد الشعور بالاكتئاب فى مواجهة طوفان الضحالة والسوقية.

من علامات الخلل الكارثى فى الثقافة المصرية، ذلك الصعود المخيف المرعب لوفرة ممن لا يستحقون، وإهمال قامات ذات أثر لا يُنسى. بعد أكثر من ثلث قرن على غيابه، تغيب أعماله الكاملة وتُنشر وتنتشر مجلدات فاخرة للتافهين عديمى الموهبة، فأى خلل؟.

إذا كنا جادين فى مقاومة سرطان الذوق المنحط الذى يحيل قوة مصر الناعمة إلى أطلال، فلماذا لا نرد الاعتبار لكاتب فذ مثل محمود دياب؟. لماذا لا تُعرض مسرحياته، ولا تُنشر مؤلفاته الفريدة فى طبعات شعبية؟. كيف تمر ذكرى ميلاد الرجل ورحيله بلا كلمة واحدة؟.

الإجابة ليست بعيدة، ذلك أنه لا جدية فى مقاومة التفاهات!.