رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

 

ما أكثر «المظاليم» فى تاريخ الثقافة المصرية، ولعل الشاعر الغنائى العبقرى فتحى قورة، الذى عاش بين عامى 1919 و1977، فى طليعة هؤلاء الذين لم يحظوا ببعض بعض ما يستحقونه من تقدير واهتمام، على الصعيدين المادى والمعنوي. أغلب الظن أن مصريا واحدا فى السنوات السبعين الأخيرة لم يردد بعض أغانيه ليلوذ بها من تجهم الحياة الكئيبة، لكن الغالبية العظمى من هؤلاء لا يعرفون اسمه!.

برائعة من روائع الشاعر عظيم الموهبة، يتغنى الفيلسوف الشعبى محمود شكوكو:

 

«حبيتك حبا جما.. والروح بهواك مهتمة

وإزاى يا جميل تهجرني.. إلى أجل غير مسمى»

 

لا بأس من السخرية باللغة تعويضا وتنفيسا عن سخرية الحياة، ولا ضير من إلحاق الأذى بأشباه الرومانسيين الذين يبرعون فى تصفيف الشعر ودهانه، وتسبيل العيون، ووضع مكياج ثقيل قوامه التنهدات الزاعقة الماسخة المصنوعة. ليس أفضل من الهجوم على هؤلاء الأدعياء بطريقة قورة:

«بقى يعنى اكمنى بحبك.. تقابلنى وبوزك شبر

كل اللى جرالى فى حبك.. وعد مكتوب بالحبر»

إسماعيل ياسين وشادية وصباح وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وليلى مراد ومحمد عبد المطلب ومحمد فوزى ومحمد العزبى ومحمود شكوكو؛ كل هؤلاء يتغنون بكلمات فتحي، الشاعر الذى يضحك ويبكي، يوجع ويواسي، ويرمق الجميع بنظرة تجمع بين الإشفاق والازدراء.

فى كلماته «ظاهر» ينبغى تجاوزه، فهناك فى الأعماق البعيدة من نصوصه الخلابة رؤية فلسفية كامنة، صادقة صادمة، مغايرة للشائع المألوف، ساخرة لا تبالى بالثوابت البالية الآسنة. من يقنعون بالظاهر السطحى وحده يتوهمون أنه شاعر ساخر مرح خفيف الظل، وعلى هؤلاء أن يستمعوا إلى شادية وهى تغنى «ليالى العمر معدودة». عندئذ يدركون أن الفقير تعيس الحظ مسلح بالوعى مسكون بالمرارة، كأنه يكتب عن نفسه عندما يقول:

«ليالى العمر معدودة.. وليه تبكى على الدنيا

وناس فى الدنيا موعودة.. نصيبها يروح لناس تانية»

الموسيقى فى كلماته ساطعة متوهجة، كأنها لفرط العذوبة لا تحتاج إلى لحن، وفى سخريته اللاذعة من التراث الغنائى ما يبرهن على أنه صاحب رؤية تضيق بالمناخ الضاغط الذى لا يستطيع أن يفلت من براثنه، لكنه يتحايل بالمتاح من أدوات ليصفع أقفية المتبلدين الأغبياء. أغنيته السينمائية البديعة «يا سيدى أمرك»، هى فى جوهرها تهكم على التراث الذى يستوعبه الشاعر الكبير ولا يقنع به. انتقال مروع فى سطر واحد من «بالذى أسكر من عرف اللمى»، ويا لها من لغة رصينة تليق بكتب البلاغة الردئية، إلى «كان فى حاله وجتله بلوى م السما»، ومثل هذا التحول الكاريكاتورى المباغت ينهض دليلا على امتلاكه للغة ورفضه الصارم العنيد أن تمتلكه.

السخرية سلاحه الوحيد لمواجهة الخلل المهيمن على الساحة، ولأنه لا يرتدى الملابس الأنيقة، ولا تفوح منه رائحة العطور الفرنسية، ولا يضفى على نفسه هالة من الخطورة، كان منطقيا أن تشتد عِلة عينيه حتى يفقد البصر وهو فى منتصف الحلقة الخامسة من عمره، ولا تنتبه الدولة «راعية الفن والفنانين» إلا بعد فوات الأوان.

 من كلمات قورة يغنى محمد عبد المطلب رائعته «ودع هواك وانساه وانساني»، فهل يكتب هكذا إلا أولو العزم من العشاق والفلاسفة وأفذاذ الشعراء؟، وهل يدرك عمق ومرارة أمثال هؤلاء إلا من يصيبهم داء الحكمة ويستقرون على شاطىء اليأس والرضا؟.

«مال القمر ماله»، «تعب الهوى قلبي»، «قلبى ومفتاحه»، «علشان ماليش غيرك»، «يا سلام على حبى وحبك»، «حبينا بعضنا»، «الأقصر بلدنا»، «بكره وبعده»، «وحياة قلبى وأفراحه»، «يا حلاوتك يا جمالك»؛ بعض من روائعه التى لا تُنسى، لكن: من يعرف فتحى قورة؟.