رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

 

 

 

ممثل فذ متفرد عند إعمال المقاييس الفنية الخالصة، دون نظر إلى النجومية الزائفة التى يصنعها المناخ الرديء للسينما المصرية. قصير نحيل تستوطن وجهه تجاعيد مزمنة عتيقة كأنه ولد شيخا مسنا، لا متسع فى فصول حياته للطفولة والمراهقة والشباب، أما نبرة صوته فذات إيقاع مختلف، ومزيج نادر من الشجن والتعب، فضلا عن المرح الخافت الكامن الذى تكتمل به لوحة الألم والوجيعة.

إبراهيم قدرى «1930-1999» فنان يمثل بوجهه وجسده ومشيته التى تبلور الشعور بالضآلة والهامشية وقلة الحيلة، لكن فيها قوة غامضة لا مسمى لها؛ قوة الاستهانة واللامبالاة. فى عشرات الأفلام التى يقدمها إبراهيم لا يظهر اسمه فى الصدارة، لكن حضوره ساطع متوهج، وطلته تسكن القلوب وتنعش الأرواح. محترف تربطه صداقة وثيقة مع الكاميرا، تحبه كما يحبها، وهيهات أن يصنع الحب المتبادل نجما!.

إسماعيل أبو دومة، فى «لا وقت للحب»، دور مبكر يكشف عن موهبة الممثل القدير الذى يقدم شخصية «التُربى» كما ينبغى أن تكون، وبعد سبع سنوات يقدم دورا مماثلا فى «يوميات نائب فى الأرياف» فتنجذب إليه العيون والقلوب. يتألق دائما فى تجسيد شخصيات الفقراء الهامشيين المهمشين، وهو ما نجده على سبيل المثال فى «شيء من الخوف» و«حمام الملاطيلى» و«قاع المدينة» و«السقا مات» و«الكرنك» و«المذنبون» و«أهل القمة» و«غريب فى بيتي» و«خرج ولم يعد». إنه البواب والعطار وماسح الأحذية وتاجر الفراخ والسمسار والتومرجى، وكلها أدوار محدودة المشاهد، وقد تكون مشهدا واحدا، لكنها تستدعى التوقف الطويل أمام براعته التى تدفع المشاهد إلى مبايعة الرجل دون انشغال بمن يواجهونه من كبار النجوم.

فى «على باب الوزير» يتخذ من المرض مهنة ومصدرا للرزق، وإذ يعرض عليه طالب الطب الفقير كمال، عادل إمام، خمسة جنيهات ليشرح له حالته، يرفض المريض المحترف بلا تردد: «خمسة جنيه إيه؟ أنا بأبيع ترمس! أنا مش ها أفتح بقى بأقل من عشرين جنيه».

الدنيا بنت الحيلة، وما أسهل أن تتحول نقمة المرض إلى نعمة. كلُ يبيع ما يملك أن يبيع، وليس مثل إبراهيم قدرى فى القدرة على الإقناع بمشروعية ومنطقية الصفقة.

من الذى ينسى دوره فى «الحريف»؟. المشهد الذى يجمعه مع ابنه فارس، عادل إمام، يقدم دروسًا بليغة فى الأداء العبقرى السلس، وليد الوعى والإدراك بأبعاد الشخصية. يقول فى عتاب محسوب لا يعرف الإسراف العاطفى الانفعالى: «ما بتزورش أبوك ليه.. نسيته ولا مستعر منه؟».

يقول كلماته هذه وهو يواصل العمل كأنه لا يبالى، ويرفض بإصرار أن يُوصف بالعجوز، قبل أن يسأل عن الحفيد الذى لا يراه. وإذ يخبره فارس بموت أمه، طليقة القفاص المقترن بزوجة أخرى، يرد وفوق وجهه أطنان من الحيرة: «معاك سيجارة؟»، ثم يعلق مثل فيلسوف يكشف أسرار الوجود فى كلمتين: «كلنا ها نموت»!.

فى المشهد الاستثنائى، يمثل إبراهيم كأنه لا يمثل، ويتحول عادل إمام فى حضرته إلى تلميذ يتعلم الحكمة. ما أعظم الممثل خارق الموهبة وهو يشرب الشاى ويدخن ويشكو مرارة الفقر والعوز بطريقة غير مباشرة.

المهنة المتواضعة لا تمنح إلا القليل، والمعاناة التى يكابدها ويتعذب بها قرب نهاية العمر تدفعه إلى طلب الدعم فى تعفف يليق بعباقرة الظل، فى الحياة والفن معا.

مصرى قح من أولئك الذين تزدحم بهم الطرقات، وتمثيله صادق عفوى كما يليق بأصحاب الموهبة والحضور الطاغى. يحيط به النجوم الأكثر شهرة، لكن الأبصار والبصائر تتجه إليه دون غيره، والأذن تصغى إليه مشدوهة بالنبرات الطيبة المتألمة. يوشك من يراه أن يميل عليه ويسأل: «معاك سيجارة يا عم إبراهيم»؟.