عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

 

عبر أكثر من ثلث قرن، منذ منتصف السبعينيات فى القرن العشرين، إلى ما قبل رحيله فى سبتمبر 2014، ترى وجهه فى كثير من الأفلام والمسلسلات فتوقن أنك تعرفه جيدا وإن التبس عليك الاسم. كم هائل من الأدوار الصغيرة التى يقتصر وجوده فيها على مشهد واحد، أو مشاهد تُعد على أقل من أصابع اليد الواحدة. يدرك المشاهد بلا عناء أنه فى مواجهة فنان كادح بحق، كأنه من بروليتاريا الممثلين، يهرول لاهثا وراء المتاح له من فرص العمل، ولا متسع عندئذ لترف الاختيار ومراعاة حق موهبته الفذة.

يوسف عيد «1948-2014» طاقة كوميدية جبارة لا يجود الزمن بمثلها كثيرا، ولعله من القلائل الذين تؤذن إطلالتهم باقتراب معانقة عاصفة من الضحك والمرح، قد تكون أجواء المشهد موحية بالجدية المفرطة، لكنه والحزن لا يجتمعان.

لعل بداية التعرف على يوسف تقترن بالأفلام غير القليلة التى تجمعه مع عادل إمام، وليس مثل شخصية سيد البرشومى فى «النمر والأنثى» للكشف عن خصائص وسمات الممثل المتمكن الذى يتكئ أسلوبه فى الأداء على العفوية والبساطة، فضلا عن الصوت ذى النبرة الخاصة كأنه الماركة مستحيلة التقليد.

وجه مصرى عادى مألوف، لا بد أنك تراه كثيرا فى الشارع والقهوة والدواوين الحكومية. ما أروعه فى «التجربة الدنماركية» وهو يغنى بصوته الأجش موالا لا يملك من يسمعه إلا أن ينفجر فى الضحك، مغتسلا من الهموم والعكارات:

«يا حلو ياللى العسل سايل من الشفة

شعرك سلاسل دهب.. دمك كمان خفة

أدفع فى مهرك ألوف.. وأهديك جميع مالي

لو قلت كلمة «يس» مع بسمة من الشفة»

لا يكمن السر فى الكلمات وحدها، لكنه التحالف بين الصوت ولغة الجسد وتعبيرات الوجه.  ما الذى يحول دون الممثل الموهوب ذى البصمة المتفردة والصعود إلى مرتبة أعلى؟ إن لم تكن البطولة ممكنة لأسباب إنتاجية احتكارية، فما السر فى ابتعاده عن الأدوار الرئيسة التى يمكن أن تستثمر موهبة لا اختلاف عليها؟

زكريا الدرديري، مدرس الرياضيات واللغة الفرنسية وما قد يستجد من مواد، فى «الناظر»، من مصادر البهجة وصناعة الفكاهة الراقية البعيدة عن الابتذال. من الأقدر على التعبير عن بؤس العملية التعليمية مثله؟ إنه فى «انتحار مدرس ثانوي» يشبه آلاف المدرسين المعاصرين الذين يخوضون حربا شرسة غير متكافئة ضد الفقر وتدهور المكانة. صمته موجع، وكلامه مؤلم، وسخريته كوميديا سوداء.

مستكة فى «حارة برجوان» قواد تنم عن مهنته ملابس ملونة وطبقة صوت متناعمة وأسلوب غير سوى فى تحريك الجسد، لكنه بارع أيضا فى تقديم الشخصية نفسها بأسلوب مختلف فى «ليلة ساخنة»، حيث حارس العوامة عطية. القواد ليس بالضرورة مخنثا يتقصع، فهو أيضا فحل صعيدى قوي. فى الحالتين، يسعى إلى رزقه شأن الملايين من الفقراء الضائعين الذين يتحايلون قدر طاقتهم للاستمرار فى حياة لا تمنحهم إلا أقل القليل.

يتألق الموهوب يوسف فى «اضحك الصورة تطلع حلوة» و«فيلم ثقافي» وكثير من الأدوار الصغيرة المماثلة التى تستعصى على الحصر. فاحش فادح ما يتعرض له من ظلم يهدر موهبته العظيمة المؤهلة لمكانة لا يصل إليها، لكن مصر هكذا، والسينما المصرية بالتبعية.

التفنن فى إهدار المواهب والتضحية بالطاقات الإبداعية سمة مصرية شائعة فى ساحة فن التمثيل وغيره من الساحات، ويوسف عيد واحد من الضحايا، فهو رائع كادح لا يجنى من عمله الجاد المخلص إلا أقل القليل. ربما يسعد فى العالم الآخر بنجاح تراثه فى صناعة السعادة والبهجة بعد رحيله، والتخفيف من معاناة ملايين المشاهدين المقهورين.

.. ربما!