رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

 

ترتبط الفلسفة بظاهرة الاغتراب ارتباطًا وثيقًا، بل يمكن القول إن الفلسفة هى نتاج للاغتراب. ونستطيع الاستدلال على هذا الافتراض من خلال قرائن عدة: فالفلسفة كما تعلمنا وليدة الدهشة، والدهشة وليدة الغربة، والغربة وليدة الإحساس بالمسافة بينى وبين الأشياء. ولنستعد مرة أخرى مقولة «هيجل»: «إن المعروف مجهول لا لشىء سوى لأنه معروف»، فالدهشة – وفق هذا المعنى – هى أن نرى الأشياء كأننا نراها للوهلة الأولى. إن آلاف الأشياء التى تمر أمام الإنسان العادى ولا تلفت انتباهه قد تبدو واحدة منها شديدة الغرابة بالنسبة إلى الفيلسوف. وهذا ما يجعله ينفصل عن تيار الوعى اليومى كى يقف متأملًا وحائرًا ومتسائلًا تجاه أية ظاهرة من تلك الظواهر التى لا تثير انتباه الإنسان العادى، لماذا؟ لأن روح الفلسفة هى الانفصال والعزلة، فلا يمكن أن نمارس التأمل الفلسفى ونحن مستغرقون فى الأشياء الجزئية، ومتطابقون مع الواقع القائم، ومستسلمون لسلطة الدهماء أو الحشد. ولهذا، فليس غريبًا أن يكون ألد أعداء الفلسفة هم الدهماء.

وليس غريبًا أيضاً أن يكون موقف الفلاسفة من الجماهير أو عامة الناس موقفًا سلبيًا، وعدائيًا فى بعض الأحيان. وهكذا كان موقف هيرقليطس من الجماهير فى عصره، فلجأ إلى الألغاز فى الكتابة حتى لا يفهمه إلا الصفوة، وكان احتقار أفلاطون للجماهير يقترب من النزعة الفاشية. أما ابن رشد الفيلسوف العربى المسلم، فيجعل التفكير العقلى الفلسفى قاصرًا على الخاصة ويحرم منه عامة الناس، خوفًا من ضلالهم وانحرافهم عن صحيح الفكر والدين. والفلسفة الوجودية، بشكل خاص، تجعل من التمرد على سلطة الحشد شرطًا ضروريًا من شروط التحرر الإنسانى، فها هو كيركيجور فى كتابه (العصر الحالى) الذى كتبه فى عام 1846 يعلن كراهيته الشديدة للحشد، ويهاجم النزوع الحديث نحو المساواة بوصفه نتيجة لهيمنة الرأى العام وثورة الدهماء، ويرى أن الخطر المباشر لانتصار المساواة هو سيادة الكل المجرد فوق الفرد. وهذا من شأنه أن يؤدى إلى التضحية بالفرد من أجل قوة مجردة هى قوة المجموع، ومن ثم فهو يؤكد أن النضال ضد الجمهور لا يقل أهمية عن النضال ضد أى نوع من أنواع الاستعباد أو ضد حكم الأمراء والبابوات. إن النضال ضد الجمهور، كما يراه كيركيجور، هو نضال ضد الزيف، ضد العبث والحقارة والوحشية، ضد ضياع الحقيقة، والسبيل الأوحد أمامنا هو أن نفرض على ذواتنا العزلة بوصفها الطريق إلى الحقيقة.

وموقف «نيتشه» لا يقل ضراوة عن موقف كيركيجور؛ فهو يمجد الأقلية الأرستقراطية ويحتقر الأكثرية الضعيفة التى ينبغى أن تظل فى رأيه مستعبدة. وسارتر برغم ميوله الاشتراكية لم يتردد فى وصف الآخرين بأنهم «الجحيم».

إن الذى يؤسس عزلة الفلسفة أو «الاغتراب الفلسفى»، إن جاز التعبير، هو موضوع التفكير الفلسفى. والتفكير الفلسفى فى صوره المختلفة ينزع دائمًا إلى «المثال»، وبالتالى فهو تجاوز لكل ما هو جزئى وعارض. ومن ثم، فإن مهمة الفلسفة كما يرى هربرت ماركيوز هى صون الحقيقة من الضياع، والإهابة بالعقل بوصفه الواقع الأصيل المقابل للواقع اللاإنسانى الزائف. بعبارة أخرى، إن المثال ينزع عن الأشياء طابعها المؤقت ويحطم قدسيتها الزائفة ليعيد خلقها وصياغتها – تمامًا كما يفعل الفنان – بصورة تتسق مع قيم العقل والنزوع الإنسانى نحو الكمال. وهذا النزوع فى حد ذاته نوع من التمرد على اللحظة الراهنة، وثورة دائمة للذات على ذاتها وعلى النقص الكامن فى قلب الوجود. والذات لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بعلوها على وجودها الجزئى ورفضها الإذعان لسلطة السائد والمألوف من الأشياء.

وغنى عن القول أن هذا الاغتراب الفلسفى اغتراب إيجابى؛ لأنه فى نهاية الأمر يصب فى تيار الطموح الإنسانى الذى يستهدف خلق الفردوس الأرضى، حتى ولو كان فى النهاية ضربًا من ضروب اليوتوبيا.