رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

ممثل صادق تلقائى يغزو القلوب بلا عناء ويتربع فيها، عالم لغوى وأستاذ يُعلم أجيالًا فنون الأداء التمثيلى والإلقاء، كاتب رائد للسيناريو والحوار منذ نشأة السينما المصرية. فضلاً عن هذا كله، فإنه من أصحاب المبادئ المؤمنين برسالة الفن السامية دون تورط فى المباشرة الفجة والوعظ المنفر.

فى عشرات الأفلام الشهيرة ذائعة الصيت، يقترن عبد الوارث عسر «1894-1982» بشخصية العجوز الطيب والشيخ الحكيم الوقور الرزين، ومن حصيلة أعماله هذه تتشكل الصورة النمطية الشائعة عند الغالبية العظمى من عشاقه ومحبيه، لكن الأمر ليس على هذا النحو الأحادى، ففى تاريخه السينمائى أدوار أخرى مغايرة، تتوارى فى زحمة الشائع من أدواره.

الحاج عامر، الطيب الورع صاحب الفرن فى «رنة الخلخال»، لا يصمد أمام إغراء الشيطانة اللعوب المثيرة برلنتى عبدالحميد. يقع فى براثنها، ويتحول بفعل الشهوة الطاغية إلى شيخ يتصابى ويتسول الشباب بلا رادع من حياء. ما أروع وجهه عظيم التعبير فى المشاهد الأخيرة من الفيلم، حيث الحسرة والندم والشعور الحاد بالفجيعة، كأنه يقفز من قمة الشيخوخة ليقف على حافة القبر.

قبل سنوات قلائل من فيلمه هذا، كان عبد الوارث شريرا مقنعا ماكرا خفيف الظل فى «عنتر ولبلب»، ويتألق القدير الموهوب عندما يسند إليه يوسف شاهين دور العمدة الداهية فى «الأرض»، أما فى «شباب امرأة» فإنه يجمع مثل عتاة عمالقة السينما العالمية بين الخير والشر، الحب والكراهية، فى دور استثنائى خارق لا يغادر ذاكرة من يشاهده.

العاشق المتقاعد «حسبو»، العجوز السكير المسكون بالمرارة، يعبر عن مشاعر مركبة معقدة بالصوت والحركة ونظرات العينين وارتعاشة الجسد المهزوم فى صراع غير متكافئ مع حب مدمر. لا يملك القوة للتحرر من سطوة «شفاعات» تحية كاريوكا، التى تراه خادما ذليلا وأسيرا يعشق أسره. ينتهى به الأمر ثائرا متمردا فى لحظة جنون منطقية، ويقتلها كأنه الكاره الحاقد، ثم إذا به سجين العشق الذى لا يفارقه فى حياتها وموتها.

فى رحلة عبد الوارث مع السينما مشهدان خارقان، يقدمهما الأستاذ العملاق فى فيلمى «صراع فى الوادى» و«المذنبون».

صابر أفندى، فى الفيلم الأول، يُقاد إلى المشنقة مدانا بجريمة قتل لم يرتكبها، ضحية لمؤامرة متقنة ماكرة مدبرة بإحكام. يسير الرجل إلى مصيره المأسوى مستسلما مسكونا بالإيمان الذى يدفعه إلى الرضا بالقضاء والقدر، لكن الموت الذى يقترب من معانقته ليس نزهة، ولا يمكن أن يكون اختبارا يسهل التعايش معه. يعبر عن المشاعر المتناقضة المتعارضة بسلاسة لا يقوى عليها إلا الأفذاذ العظماء، أولئك الذين يعايشون الشخصية ويندمجون فيها.

بعد أكثر من ربع قرن، فى «المذنبون»، يزور عبدالوارث ابنته حياة قنديل فى بيت الطالبات المغتربات، ويستمع إلى حكايتها الكاذبة الملفقة عن مكافأة التفوق التى تدفع منها إيجار المسكن وتشترى الفساتين باهظة الثمن. يرى فيما تقوله طوق النجاة من العبء المادى الذى يرهقه ويثقل عليه، وبوجهه الثمانينى يكشف فى براعة مذهلة عن يقينه الراسخ بأنها تكذب، وإصراره فى الوقت نفسه على أن يصدق الأكذوبة التى يحتاج إلى تصديقها.

قبل عامين من وصوله إلى عامه التسعين، يغادر الأستاذ راضيا مرضيا. ستون عاما من الإبداع الراقى المحترم، فى المسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون، وحياة هادئة لا موضع فيها للسخط والتذمر والاحتجاج على ما تحفل به الدنيا من خلل واضطراب. كأنه الصوفى الزاهد الذى يجد فى الحب خلاصه ومبتغاه، وفى التصالح مع الوجود سعادة لا يظفر بها إلا أولو العزم من عشاق الدين والدنيا معاً.