رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

عندما يغنى مونولوج «قولى يا صاحب السعادة»، لا بد أن تجد فى الكلمات والصوت والإحساس فلسفة عميقة بسيطة، ذلك أن المستمع يفكر بالضرورة فى معنى السعادة التى ينشدها البشر التعساء، وينفقون أعمارهم لاهثين وراء سرابها. هل تكمن فى الثراء وامتلاك الملايين؟، أم أنها تقترن بالحب والتحقق العاطفي؟ ما أكثر الأغنياء المسكونين بالتوتر والقلق، والأغلب الأعم من عتاة العشاق يتكئون على ذكريات الماضى وأحلامه العذبة المندثرة، ولا شيء فى الواقع الفعلى الذى يعيشونه إلا جحيم الوجع والفقد. هل تقترن السعادة بامتلاك السلطة والنفوذ؟. الإجابة بالنفي، فما السعادة فى مقعد لا يمكن أن يدوم؟، وما الشعور الذى يراود هؤلاء عندما يدركون أن التحولات المباغتة العاصفة قد تطيح بهم فى لحظة من أبهة السلطان إلى زنزانة معتمة؟.

مع صوت إسماعيل ياسين «1912-1972»، لا مهرب من إصابتك بذلك الدوار الجميل الذى لا تجدى معه المسكنات والعقاقير، فهو لا يخلو من لذة غامضة مغلفة بالوجع والشجن. تبدو الحياة لعبة عبثية ماسخة غير مجدية، وتستعيد كلمات النبى القديم الحكيم الذى يقدم خلاصة التجربة :»باطل الأباطيل، الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذى يتعبه تحت الشمس؟. دور يمضى ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد».

فى حضرة إسماعيل، البريء طيب القلب مثل طفل، الحكيم بلا ادعاء كأنه عجوز معمر، تهب نسائم البساطة ومخاصمة التقعر والغليظ الفج من الكلمات المصنوعة. إنه يشبه الجلباب الواسع الفضفاض، تسير به فى حارة شعبية تنطلق من جنباتها قهقهات مدوية. الفقر يطل صاعقا، والبيوت المتهالكة آيلة للسقوط، ورائحة المجارى تزكم الأنوف، والأطفال العراة يتبادلون أقذع الشتائم، لكن الحياة تسير والمتعة تُختلس. لا تفكير فى الأمس الذى ولى، ولا انشغال بالغد الذى لم يأتِ بعد، والحاضر نفسه لحظة مؤقتة هشة لا تستحق الاهتمام، ولعل الشعار العملى الذى يمارسه الجميع: خليها على الله.

سجل إسماعيل مزدحم بمئات الأفلام والمسرحيات والمونولوجات، وهو الممثل الوحيد فى تاريخ السينما المصرية الذى يقدم سلسلة طويلة من الأفلام تحمل اسمه. صعود صاروخى منذ منتصف الأربعينيات، ونجاح أسطورى خارق فى الخمسينيات. لا يتأثر بثورة يوليو فى سنواتها الأولى، لكنه فى مطلع الستينيات يبدأ مرحلة الانكسار والهبوط السريع. لم يكن يقدم أقل من عشرة أفلام فى العام الواحد، وقد يقترب العدد من العشرين، وإذا به فى فصل الغروب المبكر يتراجع ويصيبه الذبول. الشعارات والتوجهات الثورية الجديدة كفيلة بصناعة ذائقة مختلفة، وإسماعيل بدوره عاجز عن تجديد رؤيته وأسلوبه الفني.

تنحسر الأضواء وتتراجع الشهرة وهو على مشارف الخمسين، ولعل سنواته العشر الأخيرة هى النموذج الغرائبى الفذ للعنة التحولات الجذرية العميقة التى تتجاوز حدود العقل. نسيان مفاجئ كأنه لم يكن ملء الأسماع والأبصار، والرضا الاضطرارى بأدوار ثانوية هامشية فى أفلام لبنانية تافهة، وتحالف مدمر مشين بين الفقر والمرض. أوجاع نفسية لا تُحتمل، والوصول إلى محطة الموت قبل شهرين من عيد ميلاده الستين.

أكثر ما يوجع هو المشهد الأخير بعد الموت، فالمضحك العظيم الذى يسعد الملايين لا يجد مقبرة فى القاهرة، ومقبرة الأسرة فى السويس لم تعد قائمة، ولا مكان يستوعب جثمانه إلا مدافن مطربة قديمة من زميلاته فى فرقة بديعة مصابني، فيالها من نهاية.

المثير للدهشة أن الممثل الكبير يستعيد الكثير من بريقه بعد الموت. تقبل الأجيال الجديدة على مشاهدته، ويتفق الكبار والصغار فى الاستمتاع بأفلامه. يجدون فيه رجلا بسيطا لا يرهق العقول، ويضحكهم بلا عناء.

.. وما أعظم الاحتياج أحيانا إلى الضحك بلا عناء.