رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

صوتها يبدو كأنه هابط لتوه من السماء، فهو صاف بكر نقى لم يتلوث بعكارات وسخافات الأرض. فى وجهها ذلك النوع الاستثنائى الفريد من الجمال الطازج الذى يبث الراحة والشعور بالسعادة التى لا عهد للبشر بها، أما الجسد ففيه مزيج من روعة الحسى والروحي، كأنها طفلة ناضجة تسبق عمرها، أو أنثى تأبى التفريط فى طفولتها.

مع الجميلة نور الهدى «1924-1998» يشعر المستمع دائما بما تعنيه كلمة «الواحة». عندما تتحول الحياة إلى طوفان من التفاصيل والجزئيات المزعجة، تحيل الوجود إلى صحراء فى نهار صيفى قائظ، تشرق فجأة شجرة عملاقة وارفة الظلال، يهرول إلى ظلها الرحيب الحائر المتعب ويتجرع شربة ماء باردة، تتسلل إلى أعماق الجسد والروح، وعندئذ يُغفر لليوم الثقيل ما فيه من إساءة وكآبة. ابتسامتها أيضا، وليس الصوت وحده، تبث الثقة وتدعو إلى التصالح مع العالم والتغاضى عن سيئاته وأخطائه وخطاياه.

باستثناء أم كلثوم، القيمة الفنية الشامخة التى يُظلم بالضرورة كل من يُقارن بها، تتربع نور الهدى فوق قمة غناء القصائد، القديم منها والحديث، وينم أسلوبها الفذ فى الأداء عن إحساس مرهف بأعماق الكلمات وروح اللحن. إنها تضيف إلى القصيدة وتستكملها، وتترك بصمتها. من يصغى إليها وهى تشدو بشعر الأخطل الصغير : «نم إن قلبى فوق مهدك.. كلما.. ذُكر الهوى صلى عليك وسلما»، يوقن أنها صديقة حميمة وليست قارئة عابرة لكلمات الشاعر الكبير، وتغوص فى الطبقات المحجوبة المخبوءة. كذلك الأمر وهى تبارز نونية ابن زيدون الشهيرة : «أضحى التنائى بديلا عن تدانينا»، وموشح «عبث الحب بقلبى فاشتكى».

تعانق نور الهدى ذروة الإبداع والتألق والتوهج مع رائعة أحمد شوقى: «يا جارة الوادى طربت وعادني.. ما يشبه الأحلام من ذكراكِ». عندما تتغنى بالكلمات دون موسيقى، تتحول الطبيعة إلى آلات عزف تصاحبها وتطرب لها. من يشاهد أداءها، لا بد أن يتوقف طويلا أمام وجهها وأسلوبها الفريد فى تحريك كتفيها والتلويح بيديها، كأنها تعيش فى عالم خاص تأبى أن يقتحمه غريب. لا تجتهد فى فهم النص والتواصل معه، بل إنها «نص» فى ذاتها.

بين عامى 1943 و1953، شاركت نور فى بطولة عدد كبير من الأفلام السينمائية الغنائية ذائعة الصيت، أبرزها مع فريد الأطرش ومحمد فوزي. قد لا تكون ممثلة بارعة ذات شخصية مختلفة عن غيرها من المطربات الممثلات فى المرحلة التاريخية، لكن المشاهد يستمتع عند مرآها بوجهها الطيب المريح، مانح الثقة والأمان والمرح والرغبة فى الإقبال على الحياة. نسمة حانية فى ليلة صيف، غروب شجنى شتائى ملون يحرر الخيال، عصر يوم خريفى يحار المرء فى الإمساك بطبيعته ولا يستطيع أن يميز بين الضحك والبكاء، لكنه يعرف يقينا أن جوهر السعادة المشتهاة هو معايشة مناخ منعش كهذا.

فى منتصف الخمسينيات تعود إلى لبنان، ومثل ليلى مراد تعتزل مبكرا وتعيش فى الظل أو ما يشبه الظل، ولا تقدم إلا أقل القليل. ما أروع المسيحية الأرثوذكسية التى تحمل اسما إسلاميا لا تُعرف إلا به، ومن الذى يذكر اسمها الحقيقى الكسندرا نقولا بدران؟.

ما السر فى الابتعاد المبكر غير المبرر، وما دوافع الزهد فى الزواج، وكيف أنفقت سنوات الوحدة الطويلة فى أخريات عمرها، وما شعورها بعد تدمير شقتها البيروتية فى سنوات الحرب الأهلية اللبنانية؟. هل كانت تصغى إلى تسجيلاتها القديمة فى رضا صامت وتهز رأسها فى بطء، كأنها ترفع مرغمة راية اقتراب الرحيل، أم كانت تدندن بكلمات أغنيتها الجميلة الدافئة : «إن جيت للحق أنا زعلانة.. واخدة على خاطرى وغضبانة»؟.