رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

الجد باشا، والأب بك، أما الحفيد الابن زكى رستم فهو فوق كل الألقاب ولا حاجة له لأى منها. ما أكثر أبناء العائلات الثرية العريقة الذين يحترفون التمثيل، ومنهم يوسف وهبى وسليمان نجيب على سبيل المثال، لكن زكى رستم «1903-1972» ليس ممن يسهل القول إنه محب للفن يهب له العمر كله إلا السنوات الأخيرة من حياته. المسألة عنده تتجاوز الحب الشائع صانع التضحية والتمرد، وتحتاج حالته الفريدة مفردة من تلك التى تزدحم بها قواميس وقصائد التصوف، ولعل أكثرها دقة وصدقا: الحلول والاتحاد.

التمثيل عنده هو الحياة البديلة المشبعة، وما تنوع وتعدد الأدوار إلا التعبير عن شهوة عارمة كأنها الفيضان، مثل أولئك الذين يحبون كل النساء ويعشقون شتى صنوف الطعام. التمثيل عنده ليس عملاً احترافيًا أو هواية محببة، لكنه الحياة.

الممثل العملاق يقدم شخصية الباشا فى أشكال تخلو من التكرار والنمطية، فهو الجاد الوقور الملتزم فى «العزيمة»، وكان دون الأربعين، وهو الداهية الذى يقدس العقل ويتقن صناعة المكائد الشريرة فى «نهر الحب»، وهو أيضًا الأقرب إلى المجرمين العتاة زعماء العصابات فى «صراع فى الوادي». الباشا عنده ليس الرجل الأنيق المتعجرف المغتر بالثراء والنفوذ، بل إنه الإنسان الذى قد يكون خيّرا طيبًا أو مدمنًا للشر والتدمير.

كم يبدو زكى مثيرًا للشفقة والرثاء، دون نظر إلى قسوته وساديته، معبرًا عن قوة الضعف وضراوة العاجز، عندما يجسد شخصية عزيز فى «أين عمري»، وهو أيضا من يثير الإعجاب غير المحدود بروعة الأداء ذى الأقنعة المتعددة المتناقضة فى «رصيف نمرة 5» و»الفتوة» و»امرأة فى الطريق»، كأنه يعيش العمر كله تاجرا للمخدرات يتستر بالتدين الشكلى الكاذب، ومعلما محتكرا يمتص دماء الشعب الفقير بلا رحمة فى سوق روض الفرج، وميكانيكيا يتعذب بمرارة خيانة الزوجة ويتفنن فى كراهية الابن البار الذى يذكّره بما يود أن ينساه.

من يتابع بدقة أداءه فى «الحرام»، لا يشك لحظة فى أن نظارة الزراعة هى مهنته التى لا يعرف سواها، أما العلامة التى لا تُنسى فنجدها فى شخصية صابر أفندى فى «معلهش يا زهر». ابن الطبقة الوسطى الصغيرة، المستورة أو شبه المستورة، الذى يعبد «تراب الميري» ويقدس الوظيفة الحكومية ويراها الطموح الأكبر فى حياة كل إنسان. رب أسرة مستقرة هادئة، يجمع بلا تناقض بين الحب والجدية والمرح، ويجزم المشاهد أن سليل الباشوات هو فى حقيقة الأمر موظف عتيق ينحدر من قبيلة لا يعرف أبناؤها إلا الوظيفة وما يصاحبها من طقوس وسلوك.

«أنا وبناتي» محطة ذات مذاق خاص فى رحلة القدير زكى مع السينما، ومن الذى تغادره نشوة البهجة وهو يشاهد ويسمع أغنية «بيت العز يا بيتنا»؟. مع بناته الجميلات، يرقص الأب الأرمل ويغنى ويصفق ويهتز طربا، ويعيد إلى أذهان المعاصرين تلك الصورة القديمة المنقرضة عن أسرة مصرية لم يعد لها وجود، مثل الأسرة التى يقودها حسين رياض فى «فى بيتنا رجل» أو عماد حمدى فى «أم العروسة».

ما أقسى السنوات الأخيرة فى حياته، حيث الاعتزال الاضطرارى جراء علة تذهب بسمعه. يعيش وحيدا محروما من الحب الوحيد الذى لا يعرف غيره؛ التمثيل. لا شيء يؤنس وحدته إلا القراءة واستعادة الذكريات، القريب منها والبعيد. ما الذى كان يفكر فيه عند اقتراب أشباح الأزمة القلبية التى تودى بحياته؟، وما السر فى الجنازة الهزيلة التى لا تليق بمقامه الرفيع؟، وكيف تحلو الحياة بعد رحيله للخادم المخلص والكلب الذى يقتنيه؟.

ما أكثر الأسئلة، وما أصعب الإجابات.