رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

 

حاولنا فى مقالين سابقين أن نقدم تفسيراً لظاهرة نفور الناس أو خوفهم من الحرية. واليوم نستكمل معكم هذا الموضوع من خلال تحليل بنية القهر، أو إن شئنا الدقة كيف تتكون بنية القهر، وكيف يستمرئ الإنسان العبودية؟

والإجابة فى كلمة واحدة هى «الاعتياد» الذى يؤدى إلى عدم الوعى بوطأة وألم القيود. ولذلك فإن أولى خطوات التحرر هى أن يشعر الإنسان بالقيود التى تكبل حريته. وقد ذهب الفيلسوف الفرنسى «جان جاك رسو» (1712 – 1778) إلى أن معرفة المرء قيوده أفضل من أن يزينها بالأزهار وهو يعنى بذلك أن الكثير من البشر يخدعون أنفسهم فيتصورون أنهم بلا قيود.

العبيد نادراً ما يشعرون بعبوديتهم، ولا يتألمون لضياع حريتهم وكرامتهم، بل ربما يرحبون بهذه العبودية ويعدونها إحدى النعم الإلهية الكبرى! وهذا ما يؤكده المفكر الفرنسى «إتين دى لابوسيه» (1530- 1563) فى دراسته العميقة عن «العبودية المختارة»، حيث يذهب إلى أن الإنسان متى خضع للعبودية يسقط فجأة فى هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ لاستردادها، ويجعله يسرع إلى خدمة سادته صراحة وطواعية حتى يظن من يراه أنه لم يخسر حريته، بل كسب عبوديته. ربما لا يقبل الناس على الخضوع فى أول الأمر إلا جبراً وخضوعاً للقوة، ولكن من يأتون بعدهم ينصاعون للأمر دون أن يساورهم أسف، ويمارسون عن طيب خاطر ما كان أسلافهم يفعلونه اضطراراً. ذلك لأن من ولدوا وهم مغلولو الأعناق ثم أطعموا وتربوا فى ظل الاسترقاق دون التطلع إلى التحرر عادة ما يكونون قانعين بالعيش مثلما ولدوا.

ويفسر لابوسيه العبودية تفسيراً سيكولوجياً من خلال آلية اعتياد القهر فيقول: «... لا شك فى أن العادة مع سيطرتها علينا فى كل مجال لا تظهر قوة تأثيرها مثلما تظهر حين تلقننا العبودية وحين تعلمنا... كيف نجرع سم الاسترقاق دون الشعور بمرارته»، إن الاعتياد على العبودية يتحول بمرور الوقت إلى حالة أقرب ما تكون إلى الوضع الطبيعى للأشياء، وهذا ما يوضحه عبقرى الرواية الروسية «فيدور ديوستويفسكى» (1821 – 1881)، حيث يقدم لنا تحليلاً نفسياً مستفيضاً لسيكولوجيا المقهورين والمقموعين، خاصة فى الجزء الأول من رائعته: «الأخوة كارامازوف» وفى فصل بعنوان: «المفتش الأكبر»، وهو عبارة عن أمثولة خيالية كتبها إيفان كارامازوف خلاصتها أن المسيح قرر فجأة أن يعود إلى الأرض فى زيارة خاطفة أو عابرة ليقضى لحظات بين أبنائه، ثم يصعد مرة أخرى للسماء. وتدور أحداث هذه القصة الخيالية فى إسبانيا أثناء عهود محاكم التفتيش، وأثناء الاحتفال بإحراق نحو مائة من الزنادقة ممن حكم عليهم الكاردينال أو المفتش الأكبر بهذه العقوبة.

ولكن الكاردينال رأى فى الظهور المفاجئ للرب عرقلة لمهمته المقدسة، وإفساداً للإنجازات الرهيبة التى حققتها الكنيسة على مدى خمسة عشر قرناً.

إن الطريف فى هذه القصة الخيالية هو أن الطغاة عادة ما يغتصبون سلطة الآلهة ولا يطيقون أن ينافسهم أحد فى ممارسة هذه السلطة حتى لو كان الإله نفسه. وهذا ما يؤكده ديوستويفسكى عندما يوجه الكاردينال العجوز كلامه للمسيح قائلاً: «تريد أن تمضى إلى الناس، وأن تمضى إليهم خالى اليدين إلا من وعد بحرية لا يستطيعون بحكم ما فطروا عليه من بساطة وحطة أن يفهموه، عدا أنهم بالإضافة إلى ذلك يخشونه ويخافون منه، لأنه ليس هناك ولم يكن هناك فى يوم من الأيام حالة لا يطيقها البشر والمجتمع مثلما لا يطيقان الحرية».

خلاصة القول: إنه على الرغم من حب الإنسان للحرية وسعيه الدؤوب للفوز بها، إلا أن الحرية تتطلب قدراً عالياً من الوعى والمسئولية، لذلك يكره الناس الحرية – على الأقل على المستوى اللاشعورى – ويهربون منها، ويتخلصون من عبئها عند أقرب قيد يصادفونه فى طريق حياتهم. وسواء هربنا من الحرية إلى الأدوار الاجتماعية والاصطبل الإنسانى الكبير الذى يسمى المجتمع، وإلى محاكاة السلوك الآلى للأشياء على طريقة سارتر، أو خضعنا للحشد المجهول الذى يشبه الكتلة الصماء، التى بلا ملامح أو وعى، وفقاً لنيتشه وهيدجر وفروم... فى كل هذه الحالات وغيرها يصبح الإنسان متشيئاً، ومفتقداً لإنسانيته الخصبة، ويكتسب صفات العبيد والأشياء، ويبقى دوماً طفلاً عاجزاً خاضعاً ضعيفاً لا يقدر على ممارسة الاستقلال. إن الحرية تحمل مفارقة غريبة: فلا شىء يخلب العقل أكثر من كلمة الحرية، ولكن أيضاً لا شىء فى الواقع يعذب الإنسان ويؤرقه أكثر من الحرية.