رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

 

يُعتبر الإبداع الآن بمثابة الأمل الأكبر للجنس البشرى حاليًا لحل المشكلات التى تهدد مستقبل الإنسان. وبرغم انشغال السيكولوجيين منذ بدايات العصر الحديث باكتشاف الأفراد الأكثر ذكاء، إلا أن هذا الأمر لم يمنعهم من إدراك أن الذكاء وحده لا يكفى وأنه ليس هو المطلب الوحيد لدفع الحضارة نحو مزيد من التقدم، بل أصبح الإبداع هو الهدف، وهو الفاعلية التى عليها يتوقف مدى نجاح الإنسان أو فشله فى نضاله من أجل المعرفة وفى سعيه الدؤوب نحو ارتياد المجهول والوصول إلى الحقيقة.

والإبداع الذى نقصده فى سياق هذا المقال ليس الإبداع الفنى فحسب، بل إن الإبداع فاعلية متسعة تشمل الفن والعلم والسلوك وأساليب الحياة والعيش والتفكير. وفى عمليات الإبداع يتجاوز الإنسان دوره السلبى باعتباره مخلوقًا ليرتفع إلى مستوى الخالق، وعلى هذا النحو فإن النشاط الإبداعى أو الخلاق هو نشاط يضرب بجذوره فى تجارب الإنسان العاطفية والعقلية والحسية وفى إرادته أيضًا.

وينطوى الإبداع أو الخلق على عدة شروط أو سمات تميزه عن غيره من أنواع النشاط والإنتاج الإنسانى الأخرى، فالإبداع يتميز بالأصالة والتفرد والتلقائية والحرية والحداثية.

والإبداع لغويًاّ معناه الخلق على غير ذى مثال، وهذا التعريف يتجاوب مع التعريفات التى وضعها علماء النفس الغربيون فى القرن العشرين خالصة جليفورد وميدنك... ويكاد يتفق معظم هؤلاء العلماء على أن الإبداع هو نوع من التفكير التغييرى، الذى يستهدف إعادة تشكيل العناصر القديمة فى تكوينات وأشكال جديدة. ويقترب التعريف الذى يقدمه المفكر المصرى «مراد وهبة» من هذا المعنى فى كتابه «فلسفة الإبداع» حيث يُعرفه بأنه قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة بين الأشياء من أجل تغيير الواقع. وهذا التعريف يضع فى حسابه مسألة أن الإبداع ليس فقط مجرد عملية عقلانية مجردة أو متعة ذهنية فقط، ولكنها عملية هدفها تطوير وتحسين وتغيير حياة البشر. وبهذا المعنى فإن كل إبداع يُمثل نوعًا من الثورة أو التمرد: الثورة على القديم والمعتاد والمألوف، والتمرد على كافة القيود والعقبات التى تحد من انطلاقات ومرونة الإبداع وتعوق حركيته.

إن الفضاء الذى من خلاله يعمل الإبداع هو المستقبل وليس الماضى، المستقبل هو الأفق الذى من خلاله ينطلق الإبداع ويمارس فاعلياته، إلا أنه مع ذلك نجد أن العدم يدخل فى نسيج الفعل الإبداعى، فكل إبداع هو موت لقديم، وبنفس القدر، فإن كل إبداع هو بعث وإحياء وميلاد.

والتنوير أو الأنوار كإحالة إلى النور هى عكس الظلام والظلامية، فإذا كان العصر الوسيط فى أوروبا يُشير إلى عصر الظلام، حيث تم إقصاء العقل واستبعاد الإنسان وسيطرة اللاهوت والكهنوت فإن التنوير يُشير إلى الحضور الطاغى للعقل وإلى تسيد الإنسان للمشهد الثقافى والحضارى، ولذلك فإن كانط الفيلسوف الألمانى يحدد التنوير بأنه الجرأة على استخدام عقولنا بلا حدود فى كل الجهات وفى كل الموضوعات. قاعدة أن نفكر دومًا بأنفسنا هى الأساس الذى عليه يتأسس كل تنوير حقيقى.

إن الإيمان بالعقل الذى هو مصدر الإبداع، والوثوق بالإنسان هما الأساس الذى قامت عليه حركة التنوير فى فرنسا وأوروبا خلال القرن الثامن عشر، وهما أيضًا الأساس الذى يمكن أن تتأسس عليه أى نزعة أو دعوة تنويرية.

وجدير بالذكر أن اهتمام عصر التنوير بالإنسان لم يكن مقتصرًا على الجانب العقلى فقط، بل امتد أيضًا إلى مشاعره وعواطفه وغرائزه وهذا ما يسميه «راندال» فى كتابه «تكوين العقل الحديث»، الجانب الأقل حظًا من العقل فى الطبيعة البشرية. فإذا كان عصر النهضة قد ركز على الجانب العقلى من الإنسان، فإن عصر التنوير كان تعبيرًا عن الاعتقاد بأن الحياة أوسع مجالًا من الذكاء، وأن العالم أكثر اتساعًا وغنى عن العالم الذى يصور علم الفيزياء.

لقد كان عصر التنوير فى أوروبا هو عصر الإنسان بأجمل صورة، وفيه ناضل المفكرون من أجل تحرير الإنسان: عقله، وروحه، وحواسه، كبداية لانطلاق العلوم والفنون، وكحافز على تقدم الإنسانية، وكانت عظمة الإنسان فى هذا العصر تدفعه إلى تحرير ذاته، وتحرير عقله بعقله، وهذا هو المعنى الأعمق للتنوير والإبداع معًا.

تُرى أين نحن من جدلية الإبداع والتنوير؟ هذا هو موضوع مقالنا القادم.