رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

 

مصرى قح ذو أصول وملامح تركية، مهذب دمث خجول متواضع بقدر ما هو جرىء عنيد يقتحم المناطق الشائكة التى لا يجرؤ غيره على التفكير فى الاقتراب منها. دبلوماسى «ابن بلد» يعرف قواعد وأصول الإتيكيت معرفته المذهلة المتشعبة بأحشاء المجتمع المصرى فى حوارى العاصمة وقرى الصعيد الفقير.

يحيى حقى «1905-1992»، المثقف الموسوعى الذى يتقن عدة لغات، ويعشق العربية، هو من يرأس تحرير مجلة «المجلة» التى تعبر عن ذروة الثقافة الرفيعة وتخاطب الصفوة من القراء، لكنه يكتب بانتظام فى صحيفتى «المساء» و«التعاون» ليخاطب البسطاء ويرتفع بهم ومعهم. متعته الأسمى فى اكتشاف المواهب الواعدة وتشجيع ونصح المبدعين الشباب، ويكتب عنهم كأنه الأب الحريص على مستقبل أبنائه. يحنو ويجامل ويوجه، ويقسو أحيانا، ولا يتعالم أبدا أو يتعالى.

القصة القصيرة حبه الأول، ويتوهج فى تجربته الروائية الوحيدة الفريدة :«صح النوم». يكتب عن السينما مثل ناقد محترف، ومعالجاته التاريخية عميقة طازجة مبتكرة تفوق الأكاديمى المتمرس. ولعه بالشعر ينم عن ذائقة خبير، واستيعابه للموسيقى يناطح الأفذاذ من المتخصصين، وكذلك الأمر فى المسرح والأوبرا والعمارة والفن التشكيلى، أما رؤاه الاجتماعية فى عشرات القضايا فتبرهن على أنه الصديق الصدوق للفقراء، وتكشف عن شخصية عالم قادر على التبسيط العميق لما يتصدى له: من أطفال الشوارع وشيوع الأمية وإدمان اليانصيب، إلى جرائم الشرف والثأر، مرورا بلعنة الروتين الحكومى والسمات المصاحبة للتحول الاجتماعى فى الحقبة الناصرية.

كتاباته الإبداعية الخالصة لا تمثل إلا ما دون الربع من جملة إنتاجه، ولو أنه تفرغ للإبداع وحده دون المقالات الصحفية لأنجز مشروعا هائلا غير مسبوق، لكنه يأبى إلا الاشتباك بشكل مباشر مع تحديات الواقع ومعطياته.

فى سيرته الذاتية المتفردة :«خليها على الله»، يقدم وجبة دسمة تمزج متعتى الفن والفكر، ويدلى عاشق مصر بشهادة ذات مذاق مختلف، يبتعد فيها عن الإشفاق المريض والتحامل المريب، ويتسلح فى رؤيته العميقة بالوعى والتسامح والقدرة الفذة على الاستيعاب، وتقوده الموضوعية إلى أن يدين نفسه أحيانا ويكتب حيثيات التبرير والدفاع فى أحيان أخرى.

يحيى حقى ناقد انطباعى يشتبك مع النص ويبارزه وفق معطياته الخاصة، فهو لا يقتحمه مسلحا بنظريات سابقة التجهيز، وطموحه أن يسعى لاكتشاف القوانين الكامنة، أما عن الترجمات التى يثرى بها المكتبة العربية فتنبىء عن الدقة المفرطة والشعور الطاغى بالمسئولية، فضلا عن حرصه على الإمساك بروح النص وتجاوز الإطار الشكلى السطحى.

يتعلم القارئ من صاحب «قنديل أم هاشم» و«أم العواجز» و«دماء وطين» و«الفراش الشاغر»، وغير ذلك من روائعه، أن يحب اللغة ويتعامل معها باحترام يقترب من التقديس، ويتعلم أيضا كيف يقترب من البسطاء، أولئك الذين يعيشون فى الظل بعيدا عن الأضواء. معهم تشعر بالألفة، وتزول الغربة، وتتبخر المرارة، وتشم ذلك العطر الفريد الذى يسميه حقى :«عطر الأحباب». إلى الأستاذ المحترم فؤاد دوارة، يعود الفضل فى ظهور الأعمال الكاملة لحقى، ولولاه ما أُتيحت معرفة العالم الحقيقى للكاتب الكبير.

عبر محطات حياته المختلفة، يمثل العظيم يحيى واحة خضراء يانعة، يلوذ بها من يراودون الاحتماء من قيظ الكآبة والإحباط. ينفق العمر كله مبشرا بالقيم النبيلة الأصيلة، محاربًا شرسًا لجحافل القبح والسوقية والابتذال. لا شك أنه يغادر الدنيا مسكونًا بالكثير من الحزن والأسى، فالوطن الذى كان يحلم به قويًّا عفيًّا مزدهرًا منتميًّا إلى حضارة العالم الحديث، لم يكن عند اقتراب غيابه فى مطلع التسعينيات إلا مسخًا مشوهًا مريضًا تمزقه العلل، ولم تكن صحة الرجل تسمح بأن يكتب من جديد :«صح النوم».