رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

مثقف وطنى من طراز فريد، وفنان محترم ملتزم يعى معنى ورسالة أن يكون فنانا يسهم فى تشكيل رؤى وأفكار أجيال تتأثر به وقد تقلده وتحتذيه. هيهات هيهات أن تجد فى رحلته دورًا مبتذلاً أو عملاً مسيئًا مشينًا.

يكتب قبل موته نعيا تتصدره أسماء أصدقاء العمر، فهم الأقرب إليه من الأهل وأفراد الأسرة. لا يُفرضون عليه برابطة الدم والميراث الذى لا حيلة فيه، لكنه الاختيار الحر والاستمرار عن قناعة والاندماج الذى يضفى على الحياة معنى ورونقًا. أغلب الظن أن أحدا لم يفعلها من قبله، وإن تكرر الأمر له يكون بالأثر نفسه، فله فضل السبق والريادة.

تبدأ رحلة القدير محمود مرسى «1923-2004» مع التمثيل وهو فى منتصف الثلاثينيات من عمره، ويقدم وجوها للشر تتجاوز الاعتماد المباشر الفج على الملامح الخارجية والآليات التقليدية فى الأداء، وثيقة الصلة بالتجهم والإيحاء بالقدرة على العنف والأذى، فى ادعاء مفتعل يليق بمن يتصورون لفرط سذاجتهم أن الشرير لا بد أن يكون قبيحًا. لا شيء من هذا عند محمود، صاحب الوجه الجميل والقوام الرشيق والأناقة اللافتة والثبات الانفعالى والتعبير المحسوب. إنه يعايش الشخصية بعمق ويدرس أبعادها، ويجسّد الشر على طريقته الفريدة التى تختلف من فيلم لآخر: الزوج المزيف المخادع فى «الليلة الأخيرة»، رجل الأمن الشرس الصارم حاد الذكاء فى «أمير الدهاء»، المأمور السادى الذى يحكم السجن بقبضة حديدية فى «ليل وقضبان»، زعيم العصابة المستبد الطاغية فى «شيء من الخوف».

لا يكرر محمود نفسه فى أى من أفلامه هذه، ولا تغيب قدرته المذهلة على الإقناع عندما يقدم شخصيات مغايرة تماما، كما هو الحال فى «أغنية على الممر»، حيث الشاويش محمد، الفلاح الأصيل العنيد الذى لا يغادر الحقل إلا لاحتراف حياة الجندية، محتفظا بسمات العالمين المتعارضين، أما عن دوريه فى «زوجتى والكلب» و»الجسر» فإنهما ينهضان دليلا عمليا على براعة غير مسبوقة فى الوعى والإدراك بما يعتمل فى الأعماق من صراعات ومفارقات.

مع الانهيار العظيم منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، يبتعد محمود مرسى عن السينما ويزداد اقترابا من الدراما التليفزيونية. يتوهج فى تجسيد شخصية الصحفى عبد الهادى النجار فى «زينب والعرش»، رائعة الروائى الكبير فتحى غانم، ومع كتابات أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد يصل إلى ذروة الإبداع. رائع فى «عصفور النار»، وأكثر روعة فى «سفر الأحلام» و»العائلة» و»رحلة السيد أبو العلا البشري»، حيث الشخصية ذات النزعة المثالية المتطرفة: الإيمان بالوطن، حب الناس، الاعتزاز بالكرامة، العداء الأصيل للابتذال والسوقية وغياب القيم. ما أكثر المشتركات بين محمود والبشري، وما أعظم الفنان القدير وهو يعبر بكل ذرة فى جسده وروحه عن عصر الانهيار والضياع.

لا متسع فى الزمن الرديء لأمثال البشري، وضرورات الحياة تفرض على وكيل أول الوزارة فى «حد السيف» أن يعمل عازفًا للقانون فى فرقة سوسو بلابل، لكنه يبقى محترما لأنه يوقن بسمو الرسالة التى يؤديها، ويجد فى الوحدة ملاذا ينأى به عن التورط فيما لا يرضيه.

محمود مرسى والموظف الكبير طلعت عبد الحميد يدفعان ثمنا فادحا للتمسك بالاحترام فى زمن الراقصة سوسو؛ الزمن الذى لا يصح فيه الصحيح ولا يصح أن يصح، ويسود كل رديء تافه منحط مبتذل. لا يملك المشاهد إلا أن يقول لنفسه مواسيا: إنه عازف بارع نادر الموهبة فى عصر النشاز والتخبط.

النعى الاستثنائى الذى يكتبه محمود مرسى لنفسه يليق به، فهكذا تكون النهاية التى تتوج حياة المبدع النبيل، الموهوب الذى لا يجود الزمان بمثله إلا قليلا قليلا.