رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

عطر الأحباب

 

 

 

مع أفلامه تشعر بمعنى أن تكون متقنا لعملك، جادا فى بنائه بلا إهمال أو تكاسل، حريصا على تقديم وجبة كاملة مشبعة تليق بالمحترف الذى يعرف ما يريد، ولا يتهاون فى جزئية صغيرة تخدش وتسيء.

كمال الشيخ «1919-2004» أستاذ و«أوسطى» بكل ما تتضمنه الكلمة من إيجابيات، ولا يمكن أن ينفصل حب المشاهد واحترامه لإبداعه الراقى عن الإعجاب غير المحدود بملامح شخصيته، حيث إيثار الهدوء والصمت، والابتعاد قدر الطاقة والمستطاع عن الصخب والعراك والغوغائية، والتسلح بالحكمة التى تتعالى على اللغو والصغائر.

لا يحظى المخرج الكبير الرائد بالشهرة والنجومية التى تليق بعطائه ومكانته، ولا يختلف الأمر كثيرا عند عشرات غيره، فى السينما والأدب والغناء وغير ذلك من مجالات الإبداع. البعيدون عن الشللية وعصابات تبادل المصالح والمنافع، لا يجدون من ينصفهم ويكشف عن بعض جوانب تفردهم.

تخلو أفلام كمال الشيخ من المواعظ والنصائح والأفكار الهادفة سابقة التجهيز، ولا شيء فيها من التوابل التى تتكئ على الجنس والمشاهد الساخنة، لكنه يملك سلاحا ينفرد به، كأنه هتشكوك السينما المصرية، فهو يقدم أفلاما ممتعة بالغة الجودة، متقنة البناء محكمة الصنعة، حافلة بالتشويق والإثارة، خالية من السوقية والابتذال، كاشفة بعمق عن جوانب نفسية مخبوءة فى أعماق البشر. قليلة هى أعماله ذات التوجه السياسى المباشر، لكن السياسة بالمعنى الرحيب الشامل للمصطلح لا تغيب، ذلك أنه يشتبك مع الحياة الاجتماعية بكل ما تحفل به من صراعات، وينشغل بهموم أفراد يمثلون عينة دالة تصلح لتقديم شهادة ناضجة متكاملة عن الواقع المضطرب الحافل بالخلل والارتباك.

فى أول أفلامه: «المنزل رقم 13»، خليط من البوليسى والنفسي، وتحكم بديع فى الإيقاع، وقدرة لافتة على صناعة أجواء التوتر بلا افتعال. احترام عقلية المشاهد سمة راسخة لا يتخلى عنها كمال فى أفلامه جميعا، والبناء المنطقى عامل مهم يميزه عن مخرجين آخرين يدمنون السذاجة والسطحية، خاضعين لنزوات البطل ومطالب شباك التذاكر، لا يميزون فى تعجلهم بين ملابس الصيف ومعاطف الشتاء.

لا تتبخر متعة أفلام الشيخ بالمشاهدة الأولى والكشف عن الأسرار والخبايا، فمع المشاهدات التالية تُتاح الفرصة لاكتشاف المزيد من براعة تكوين الجزئيات الصغيرة الفاعلة، التى قد تغيب عن المتلقى مع اللهاث وراء معرفة اللغز الغامض والسر المخبوء. فى «من أجل امرأة» و«لن أعترف» و«الليلة الأخيرة» و«الطاووس»، لا يزول السحر أبدا؛ ذلك أن البطولة لا تكمن فى القصة والعقدة فحسب، لكنها أيضا فى أسلوب البناء الفنى وما يمنحه من متعة متجددة.

«حياة أو موت» علامة فارقة شجاعة فى تاريخ السينما المصرية. لا تنهض بطولة الطفلة التى تجوب الشوارع على الرقص والغناء كما هو الحال مع فيروز فى أفلام أنور وجدي، فالبطولة مستمدة من الصراع الضارى الذى تخوضه ضد معاناة المرض وأشباح الموت، مسلحة فى المعركة غير المتكافئة بالإرادة الحديدية والحب الأصيل الذى ينعكس على سلوكها ورحلتها النبيلة الشاقة لإنقاذ أبيها من أزمته ومحنته. الإنسان العادى الفقير محور الاهتمام كله، والمصادفات صانعة التحولات مقنعة سلسة لا ادعاء فيها أو صناعة مشوهة.

فى ذروة التوهج والنضج والقدرة على المزيد من العطاء، يتراجع كمال الشيخ فلا يقدم بعد معانقة عامه الستين إلا أقل القليل. لا يتوافق مع المناخ الجديد الرديء، ولا يخرج فى سنواته العشرين الأخيرة غير عدد محدود من الأفلام، تُعد على أصابع اليد الواحدة. يعيش حياة هادئة فى الظل، ويموت فى بساطة ووداعة تليق بشخصيته. لا شك أن الحسرة لم تغادره وهو يرصد صعود مصر إلى الهاوية، كأنها تعيش أحداث فيلم عشوائى لا صنعة فيه ولا إتقان.