رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

عطر الأحباب

 

 

 

برىء مثل طفل فى الثالثة، حنون كأنه جد طيب فى الثمانين من عمره. الحبيبة عنده وطن يأوى إليه ويلوذ به، والوطن ليس إلا حبيبة يهمس لها فى رقة القادمين من طنطا، حيث رحاب السيد أحمد البدوي: بلدى أحببتك يا بلدى، ذلك أن الوطنية عنده لا تقترن بالضجيج وتلال الجماجم.

يجمع محمد فوزى «1918-1966» بين الغناء والتلحين والتمثيل، مسلحا بالبساطة والروح الشعبية المرحة الأصيلة، معاديا بلا هوادة للزخرفة والادعاء والإيغال المزعج فى الصنعة. أداؤه نابع من القلب، سهل الوصول إلى القلوب، وجماله الأخاذ يقترن بالعفوية. يغنى كأنه لا يغنى، ويلحن فيشعر المستمعون إليه من فرط الصدق بأنها ألحانهم، ويمثل فيوقن المشاهد أن الشعور بالغربة لا موضع له فى ظل الحضور المتوهج.

أجمل ما فى محمد فوزى أنه لا يشبه أحدا، فلا يقلد ولا يسهل تقليده. متفرد هو فى الغناء والتلحين والتمثيل، وهو كذلك أيضا فى نمط حياته وأسلوب معيشته ومنهجه فى التعامل مع الآخرين. ينتمى إلى أسرة ريفية فقيرة، وعبر سنوات متصلة من الكفاح الجاد الشاق، يذوق خلالها ألوانا من الشقاء، ينجح الفنان الدءوب فى تحقيق تراكم مادى من مدخراته، وعندئذ يتخذ قراره بالعمل من أجل خدمة الفن والفنانين، وينشئ شركة «مصرفون» لصناعة الأسطوانات. لم يكن هدفه تحقيق الربح فحسب، وهذا أمر مشروع لا غبار عليه، لكنه يراود أيضا تجسيد أحلام يعود خيرها الوفير إلى فنانى المرحلة وجمهور المتلقين. يحصل الفنانون على حقوق مادية ومعنوية لم تكن متاحة لهم من قبل، وينخفض سعر الأسطوانة وتزيد جودتها، وينتصر الإنتاج الوطنى الخالص على نظيره المنافس من الصناعة الأجنبية.

كان محمد فوزى وطنيا من خلال أغانيه وألحانه وأفلامه، حيث الاقتراب من الناس العاديين والتعبير عن نمط جديد من الحياة الحافلة بالمتغيرات، ولعله فى مشروعه الاقتصادى هذا كان يواصل النهج نفسه، الذى يلتزم به طوال حياته، ويمكن أن يُصاغ فى سؤال بسيط: كيف يقدم الخدمات الجليلة فى همس بلا صراخ؟

بعد رحلة نبيلة تقوده إلى المجد، تهل سنوات الدموع. يتعرض الفنان الجميل فى سنواته الخمس الأخيرة لاضطهاد غير مبرر يطيح بمشروعه. لم يكن ابن القرية الطنطاوية الصغيرة مستغلا أو عدوا للشعب، وهو آخر من يمكن القول إنه صاحب ثروة مشبوهة المصدر، لكنه الخلل الفادح الذى يصيب وجوها شتى فى الحياة المصرية، اقتصاديا وفنيا على حد سواء.

المشهد الأخير فى حياة محمد فوزى حبس عبدالعال الحو، ابن قرية «كفر أبو الجندي» على مشارف طنطا، بمثابة التتويج لمسيرة الفنان المحترم الذى يحب الوطن، ويبادله المصريون حبا بحب.

فى صباح العشرين من أكتوبر سنة 1966، يتحرك الجثمان من مسجد عمر مكرم بميدان التحرير، ويسير آلاف المشيعين لوداع الفقيد العزيز الذى أسعدهم وأمتعهم وأخلص فى التعبير عنهم. مندوب الرئيس جمال عبدالناصر يسير فى المقدمة، وحوله أولاد فوزى، وتظهر وجوه كثيرة من نجوم الثقافة والفن فى الجنازة الشعبية المهيبة. مع هؤلاء الأعلام أصحاب الشهرة، يسير آلاف من أبناء الوطن العاديين، ملح الأرض؛ أولئك الذين يعيشون فى الظل. تفشل قوات الأمن فى السيطرة على عواطفهم الحارة، فهم يتشبثون بالجثمان كأنهم يرفضون الإقرار والتسليم بأن فنانهم الموهوب البسيط المرح المتواضع سيغادر إلى الأبد.

يطوفون بفوزى فى رحلة أخيرة، تمتد من «باب اللوق» إلى «عابدين»، وصولا إلى «الأزهر»، ومن هناك إلى «البساتين». لقد آن لمن يفترسه المرض النادر، وليد القهر والاضطهاد، أن يحظى بقدر من الراحة، ويقنع بدعاء الملايين من محبيه.