رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

عطر الأحباب

 

 

فنان استثنائى خارق الموهبة، لا تملك إلا أن تقع فى غرام لوحاته الخلابة منذ النظرة الأولى، وتجد فيها عالما فريدا رحيبا يحلق معه الخيال ويعانق تلك الآفاق البعيدة الغامضة المحجوبة. محمود سعيد «1897-1964» يمزج روحه بالألوان، ويشتبك مع الخطوط فى مبارزة نبيلة ثمارها نشوات منعشة ذات مذاق يتجاوز قدرة اللغة العادية المألوفة على التعبير، كأنه يمطر عطراً. كل هذا الصمت المشحون بالضجيج العذب ذى الإيقاع المنظم فى عفوية بلا شبيه، وكل هذا العرى الذى يضج بالحياة كأنه فيضان النهر فى عنفوانه العفى.

كيف لمن لا يعشق الإسكندرية وبحرها أن يتواصل مع العبقرى الفذ الذى يختصر مدينته الساحرة فى قنينة حافلة بالعطور الأسطورية؟!. إنه يطوف حول مسجد أبى العباس، ويبحث فى الشوارع العتيقة الطازجة عن جوهر الشخصية المصرية. يالها من مدينة تلك التى تنجب سيد درويش وبيرم التونسى، وتعيد تشكيل داريل وكافافيس، ويحج إليها نجيب محفوظ فى سبتمبر من كل عام ليستمد المدد.

فى لوحات «الدراويش» و«بائع العرقسوس» و«الشادوف»، وفى كل لوحاته العارية حيث الأجساد المسكونة بشهوة الحياة، يطل ذلك النوع النادر من الصوفية الشعبية غير المعقدة، تلك التى يعرفها عشاق البحر والخصوبة، المولعون بالنوات والطبيعة القوية التى قد تؤذى بعض الأجساد الضعيفة، لكنها ترتق جراح الروح وتضمدها.

سليل الأسرة الأرستقراطية، وابن رئيس الوزراء الكريه المحسوب على الصفوة المتعجرفة، من أفذاذ المعبرين عن خلاصة الروح الشعبية وجوهر الشخصية المصرية الأصيلة. عندما تستغرق فى تأمل رائعته «بائع العرقسوس»، لا بد أن تستدعى قصة يوسف إدريس المذهلة «مارش الغروب»، وتقول لنفسك: كأن محمود سعيد يكتب، أو كأن إدريس يرسم. فى لوحة السكندرى الفذ ترى البائع يتحرك، وتسمع صوت ندائه واضحاً قوياً، وربما تقترب منه لتطلب أن يصب لك كوباً من العرقسوس.

مع «بنات بحرى»، التى يمجد فيها محمود المرأة الشعبية ويضعها فوق عرش الجمال والفتنة الطاغية، تفكر فى بيرم التونسى الذى يطوف العالم ولا يجد مبتغاه وراحته وواحته إلا فى «البرقع واللبدة والجلابية»، وتجد فى «ردح» النساء الشعبيات، الجميلات القاسيات، شعراً له قوانينه الخاصة. عن أى نوع من الخصوبة الأسطورية يبحث محمود سعيد؟. الإجابة فى إبداعه المختلف صانع البهجة.

لا غرابة أو نشاز فى أن يكون محمود دارساً للقانون وقاضياً مرموقاً، فهكذا أبناء العائلات التى تحتكر الحكم والمناصب ذات السيادة، ولم يكن توفيق الحكيم بعيداً عن الدائرة نفسها، حيث العمل فى مكان لا يتوافق ظاهرياً مع موهبته الحقيقية، لكن الرضوخ هنا لا يسىء أو يضر، والمروق من سجن الطبقة والتقاليد الموروثة ليس مستحيلاً. ما يكتبه الحكيم فى «يوميات نائب فى الأرياف» هو نفسه ما يرسمه محمود عاشق الأزقة والحارات الضيقة، بروائحها التى يستنشقها كل متأمل جاد مخلص لعالمه الثرى الخصيب.

محمود سعيد حالة مصرية جديرة بالاحتفاء والتكريم والاهتمام، لكن الانحطاط الثقافى يحجب عطاءات الفنان العظيم عن الأغلبية الساحقة من المصريين المعاصرين الذين قد يجهلون اسمه، ولا ينعمون بلذة الاستمتاع والتأمل فى إبداعه الذى هو زاد لا غنى عنه لإثراء الروح وتحقيق التوازن فى عالم مضطرب مختل يخلو من السكينة ولا متسع فيه لثقافة العين والتواصل مع الجمال.

لا بد من الاعتراف بهيمنة القبح، وهو ما ينعكس على عشوائية الشارع المصرى وابتذال اللغة وانهيار الموسيقى والسينما وشيوع التحرش والبذاءة. استعادة محمود سعيد وأمثاله من نوابغ المصريين هى المدخل الوحيد لاستعادة نعمة أن نكون مصريين، نصنع الحضارة وننتصر للجمال.