رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

الأغلب الأعم من كتابات الرائد الكبير عن نفسه ولنفسه، فهو من الذين يدركون مبكراً أنه يعيش مرحلة انتقالية عاصفة، لا تشبه ما قبلها، وتختلف بالضرورة عما يأتى بعدها. يبدأ عطاؤه المتوهج مواكباً لثورة 1919 الشعبية العظيمة، ويغادر الدنيا قبل ثلاث سنوات من ثورة يوليو 1952. لم يكن إنتاجه المتنوع الغزير إلا شهادة فنية موضوعية تكشف عن الملامح الإيجابية والسلبية لعقود صعود الليبرالية وانكسارها. الذين يمهدون الطريق، لا يتوقف التاريخ طويلاً عند جهدهم الجبار، والكثير الكثير من البديهات بعيون اليوم والأمس القريب، لم يكن كذلك قبل قرن أو أقل قليلاً، حيث المفاهيم المختلطة والمصطلحات الغائمة والمعاناة المرهقة من ميراث ثقيل مظلم منقطع الصلة بأبجديات الحياة العصرية فى شتى مناحيها.

إبراهيم عبدالقادر المازنى «1889-1949» ناقد طليعى يسبق عصره وإبداع معاصريه وسابقيه، وهو روائى وقصصى يملك الكثير الذى لم يقله كاملاً، أما التوقف المبكر عن الشعر فيبدو منطقياً، ليس لضعف الموهبة أو قلة الحيلة، بل لأن الهرولة فى التجديد لم تكن فعلاً ميسوراً، ولا قدرة على الصدام العنيف مع ثوابت راسخة يعى المازنى أنه لا يستطيع تجاوزها ونسفها.

الجادون من قراء المازنى يدركون عمق ثقافته الموسوعية، ولا تغيب عنهم براعته الفذة فى الترجمة واستيعابه الناضج لتراث العرب وعطايا الغرب، ولا بد أنهم يدركون أيضا كم هو وديع زاهد مترفع عن الصغائر. فى هذا الإطار، ينصرف عن صخب السياسة وحقول ألغامها، فلا يتورط فيها إلا من بوابة «أكل العيش» عبر العمل الصحفى. قد يكون صحيحاً أن كثيراً من مواقفه السياسية ما يؤخذ عليه، لكنها مرحلة لا ينجو أحد من مثالبها وحدة الاستقطاب الذى يهيمن عليها، ومن كان بلا خطيئة فليرمه بحجر.

كاتب يحترف الصدق، ويكره الزيف، ويتسلح بالبساطة، ويملك لغة خاصة تغنيه عن استعارة أساليب غيره. النشأة الفقيرة الحافلة بالحرمان لا تخدش كرامته وكبرياءه، والأم القوية المكافحة قدوته ومثله الأعلى، والتسامح فضيلته وعلامته، فهو لا يحمل ضغينة ويترجم الأوجاع والمرارات إلى سخريات لاذعة. حياته الشخصية حافلة بصنوف من التعاسة وسوء الحظ ومكايدات القدر، وريادته الجديرة بالاحترام والاهتمام تتجلى فى الاحتكاك بالشارع والحارة والزقاق وبسطاء الناس، فهم مادة قصصه ومقالاته، يتوجه إليهم ولا يتحصن بالبروج العاجية. بسيط كأنه الماء والهواء، وما أكثر السفهاء الذين يستهينون بقيمة الماء والهواء، وهما عماد الحياة وسر الوجود.

دراسته عن ابن الرومى من أعمق وأشمل وأدق ما كُتب عن الشاعر الكبير المقترن دائما بالنحس، وكذلك الأمر عندما يكتب عن بشار والمتنبى والشريف الرضى، أما ذائقته فى نقد المعاصرين فإنها تجسد موهبة استثنائية متفردة لم تنل بعض ما تستحق من التقدير، فى ظل هيمنة الابتذال والخلل وسيادة الأحكام الباطلة سابقة التجهيز.

علاقة المازنى مع الموت أقرب إلى الصداقة بلا خوف، وسكناه لفترة غير قصيرة بجوار المقابر، يمر عليها فى ذهابه وإيابه، فى مرحلة مبكرة من عمره، تمنحه نوعاً من الحصانة المغلفة بالسخرية، وها هو يترجم عن شاعر ألمانى ما يكشف عن جوهر رؤيته غير التقليدية:

«أيها الزائر قبرى.. اتل ما خُط أمامك

ها هنا ترقد عظامى.. ليتها كانت عظامك»!

يموت المازنى يوم عيد ميلاده الستين، وكانت ميتة هادئة وديعة كحياته.

ما أروعه حياً وغائباً حاضراً.