رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

عطر الأحباب

عبر عقود متتالية، يشاهد المصريون أجيالا من نجوم الكوميديا، ومن الذين يُقال إنهم كذلك، لكن نجيب الريحانى «1889-1949»، عند قطاع عريض من المشاهدين، هو الأقرب إلى القلوب والعقول والأرواح، فمن أسلوبه الفريد فى الأداء تفوح الروائح الشهية للطعمية والملوخية، وترتسم على وجهه الدافئ الجميل المعبر خريطة مصر المتعبة المرهقة المعذبة، بقدر ما هى صامدة متماسكة مسلحة بالسخرية اللاذعة. مع الريحاني، ننتقل بسرعة خارقة من دموع الحسرة والألم إلى قهقهات التعالى واللامبالاة، ونؤمن بالقدر والحظ، ويهيمن على الأغلب الأعم من مشاهديه شعور موجع بملازمة النحس لهم، فمثل هذه المظالم المزمنة لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة، ولا بد لها من سبب غامض مجهول!

الأستاذ حمام، فى «غزل البنات»، مندوب الشرفاء الجادين الكادحين المصابين بلعنة التعاسة. لا تقتصر روعة الفيلم على الأزمة العاطفية الذاتية التى يتعذب بها المدرس البائس، ذلك أن الجانب الآخر الذى لا يقل أهمية يطل مع المشهد الشهير الذى يسبق اللقاء الأول بين حمام والباشا سليمان نجيب. كهل أنيق مهيب لا عمل له فى القصر إلا تقديم القهوة، ورجل آخر أكثر أناقة يتولى رعاية الكلب الصغير المدلل مقابل أجر شهرى ضخم يسيل له لعاب الفقراء، أما المعلم المثقف نابت الذقن مهلهل الثياب تعيس الحظ فإنه ينفق جل عمره فى ساحة التعليم بلا ثمرة!

السؤال المزعج، ذو الإجابة المعروفة الصادمة: هل طرأ شيء من التغيير الإيجابى على مصر بعد سقوط دولة الباشوات ومحترفى تقديم القهوة ورعاية الكلاب؟ لا شيء يجد إلا شيوع الشعارات الوردية الرنانة، وفى زمن «السوبر باشوات» ما يبرهن على حقيقة الانتقال من السيئ إلى الأسوأ، ومن المعاناة التى ترّوض السخرية حدتها إلى عذابات تصنع الإحباط والاغتراب والانتحار!

كان نجيب الريحانى من عتاة المعجبين بعبقرى التلاوة الشيخ محمد رفعت، صوت السماء النقى السخي، ولا يعرف أن صديقه المقرب بديع خيرى مسلم وليس مسيحيا إلا عند ذهابه لأداء واجب العزاء فى والد بديع، فيجد السرادق وتلاوة القرآن الكريم. بعد موت نجيب، يجدون فى بيته إنجيلا ومصحفا وصورة للقديسة سانت تريزا وكتابا تراثيا فى تفسير القرآن. أين ذلك الزمن المسكون بالحب والتسامح، ولماذا يبدو الآن كأنه من أساطير الأولين؟

لا بد من التوقف طويلا أمام مشهد لا يلتفت إليه الكثيرون من عشاق الريحاني، فبعد رحيله تضرب كلبته «ريتا» عن الطعام حزنا على رحيله، وتموت بعد يومين من غيابه. هل يملك من يتأمل الواقعة إلا أن يفكر فى مقولة الريحانى يخاطب بها الموظف المسئول عن رعاية الكلب فى قصر الباشا: «تلاتين جنيه؟.. أنا لو من تمنتاشر سنة باعلّم كلاب كنت دلوقت من الأعيان!».

الأسوياء من الناس لا يكرهون الكلاب، فى السينما والحياة معا، لكن الحد الأدنى من العدل والإنصاف يقتضى قليلا من الاهتمام بتعساء البشر، فلا شك أنهم يستحقون معاملة كالتى تحظى بها الكلاب المدللة.

نجيب الريحاني، عراقى الأب مصرى الأم، فنان استثنائى من طراز خاص، ينهض توجهه دليلا عمليا على قدرة مصر فى تذويب الوافدين إليها وتمصيرهم وتحويلهم إلى جزء أصيل من نسيجها. هكذا الأمر مع البارودى وشوقي، وبيرم التونسى ويحيى حقى وسعاد حسني. الانتماء المصرى لا ينبع من شهادات الميلاد وأوراق السجل المدني، بل هو وليد عذوبة المكان المتسامح البارع فى الاحتواء.

عشرات المسرحيات الكوميدية، وعشرة أفلام من علامات السينما، وحضور ممتد لا يعرف الذبول. إنه معاصرنا كأنه يعيش بيننا، فأمثاله من الأفذاذ لا يعرفون الغياب.