رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

هذه الدنيا

قد يذهلك عنوان هذا المقال.. ولكنه الولع بحكايات البشر والحجر.. أعشق السير فى شوارع القاهرة.. فى كل ركن من شوارعها حكاية وحكايات.. أتأمل وجوه الناس، وأطيل النظر فى المبانى والطرقات أبحث عن أثر الزمن فى كل ما أراه.. أشعر بأن الحجر مثل البشر.. يحمل حكايات ويخفى أسرارا، ويقف شاهدًا على أحداث وأشياء كثيرة..

يختلط خيالى بقراءاتى وأبحاثى فى تاريخ مصر، وتتراءى أمام عينىّ المبانى والشوارع التى تشهد على تواريخ سرعان ما أربطها بأحداث جسام مرت بها مصر.. أشعر أن الحجر يريد أن ينطق ويتحدث ويروى حكايات من دفتر الزمن، روايات لأحداث لم أعاصرها لأنى ولدت بعدها بأعوام كثيرة، ولكنى قرأت عنها.. ويقف هذا الأثر شاهدًا عليها..

الصدفة وحدها جعلت عينىّ تقعان على «غطا بلاعة» فى منطقة كوبرى القبة أمام أحد المبانى الهامة.. والتاريخ المكتوب عليه عام 1958..

ياااه.. أيقبع هذا الغطاء فى مكانه منذ 61 عامًا دون أن يزحزحه أحد أو يحال للتقاعد بحكم الزمن.. كم قدم مرت فوق هذا الغطاء؟ كم حدث تلبدت به سماء القاهرة طيلة تلك الفترة وظل هذا الغطاء الحديدى الصلب شاهدًا عليه؟ كم مرة تعرض فيها هذا الشارع للرصف وظل هذا الغطاء فى موقعه دون أن يفكر أحد فى إزاحته..

أخذت أتأمل مبانى المنطقة.. المرحلة الناصرية تدمغها بوضوح.. إنها مرحلة الخمسينيات والستينيات التى فرضت نمطًا معماريًا له فلسفته التى تختلف عن فلسفة معمار ما قبل ثورة 1952.

والمؤكد أن هذا الغطاء العريق شأنه شأن مبانى منطقته كان شاهدًا على تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة، ربما كان هذا الغطاء أطول عمرًا من كثير ممن قاموا بتركيبه من عمال البلدية وقت حكم عبدالناصر.. لم يخطر على فكر أحد أن العمر سيمتد بهذا الغطاء الحديدى ليشهد أحداثًا سياسية جسيمة بدأت بحلم الوحدة مع سوريا، ثم نكبة الانفصال عنها، وأحداث مرحلة الستينيات بحلوها ومرها.. ظل هذا الغطاء شاهدًا على معجزة بناء السد العالى، والمؤكد أنه سمع أحاديث الناس وشهد احباطهم بعد نكسة 1967.. عبد الناصر يعلن التنحى.. والجماهير تخرج تطالبه بالبقاء، الصراع يحتدم مع عبد الحكيم عامر، والمشير يموت دون أن يعرف أحد هل مات مسموما أم منتحرًا.. سنوات الاستنزاف، ورحيل عبد الناصر، ثم تولى أنور السادات الحكم، وعبور 1973، ومفاوضات فك الاشتباك ومباحثات الكيلو 101، المبادرة وزيارة السادات للقدس وكامب ديفيد.. وتنامى المد الإسلامى فى مؤسسات الدولة.. أحداث كثيرة وضعت كلمة «النهاية» لفترة السادات فى 6 أكتوبر 1981.. ثم جاء مبارك وبدأت حكاية الـ 30 عامًا فى حكم مصر. ثورة 25 يناير وجمعة الغضب وموقعة الجمل، تجبر مبارك على تسليم السلطة للمجلس العسكرى، ثم يقفز الإخوان على سطح المشهد أو ربما على ظهر الثورة، وبعدها 30 يونيه وفترة عدلى منصور الانتقالية، ثم الرئيس عبدالفتاح السيسى..

وبالتوازى مع هذا الحراك السياسى.. وقف الغطاء شاهدا على تحولات اجتماعية خطيرة بدءًا من موضة أزياء الستينيات التى لا نرى أثرًا لها إلا فى حفلات أم كلثوم.. زمن الأبيض والأسود.. عصر البهوات والهوانم.. ثم موضة السبعينيات.. البنطلونات الطويلة الواسعة.. والشعر الكثيف أبو سوالف، وأفلام نور الشريف وميرفت أمين، واحنا الطلبة، وأتوبيسات المرسيدس الإيرانى والحب فى حرم الجامعة التى تحولت إلى ساحة للصراع بين التيارات الفكرية وصلت إلى رفع السلاح..

زمن الانفتاح وظهور أنماط استهلاكية جديدة أصابت المجتمع بصدمة فى ذاك الوقت..

وقفت طويلًا أمام «غطا البلاعة» أتأمله، وأسترجع كم الأحداث التى وقف فى مكانه شاهدًا عليها..

لقد تغيرت أشكال السيارات وظهرت أنواع جديدة لم تكن موجودة وقت أن وضع فى مكانه..

والمدهش أن طباع الناس وأخلاقهم تبدلت.. بينما حافظ «غطا البلاعة» على شكله ورسمه والتاريخ المطبوع عليه دون أن ينال منه الزمن.

[email protected]