رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نحو المستقبل

مواصلة لنقاشنا الذى بدأناه حول هذه القضية وإجابة للسؤال الذى طرحته فى المقال الماضى حول هل

أصبح الواقع فعلاً واقعان؟ واقع افتراضى وواقع مادى ؟! وأيهما أهم الآن ؟! أشير إلى أننا كنا فيما قبل نشوء ما يسمى بالواقع الافتراضى نقيس حرياتنا بمدى مسئولية كل منا عن أفعاله وبقدر استقلاله عن الآخرين فى تصرفاته وفى تحقيق غاياته الخاصة. أما الآن وفى ظل هذا النوع الثانى من الواقع ربما تكون قد اتسعت مساحة الحرية ولو بصورة جزئية، فقد أصبح المرء يمتلك حرية أن يكون مجهولاً تمامًا بالنسبة للآخرين كشخص مادى حقيقى ومع ذلك يقيم معهم علاقات ويعيش معهم أحداثا ويلعب معهم ألعابًا ... الخ!!

لكن السؤال الذى سرعان ما يثور فى الأذهان هو: هل أصبح ذلك الشخص الذى يعيش فى هذا الواقع الافتراضى مع آخرين مجهولاً حقًا بمعنى هل هو يمتلك حرية التخفى بشخصيته الحقيقية ؟! أم أن العكس هو الصحيح؛ لقد أجاب لوتشيانو فلوريدى  فى الكتاب الذى أشرنا اليه فيما سبق عن هذا السؤال قائلاً أنه لم تعد الحرية فى بناء هوياتنا الشخصية على شبكة الانترنت هى الحرية فى أن تبقى مجهولاً كما عبر عنها بيتر شتاينر فى الكاركاتير الذى يقوم فيه كلب بكتابه رسالة بريد إلكترونى على الحاسب، ويعترف لكلب آخر بأنه على شبكة الانترنت لا أحد يعرف أنك كلب ! فذلك كان فى التسعينيات من القرن الماضى !. أما الآن فإن فيس بوك أو جوجل أو أى من المؤسسات المعنية بالأمن يمكنها أن تعرف من أنت. إنك لم تعد تستطيع الكذب بسهولة بخصوص من أنت عندما يراقبك مئات الملايين من الناس والآجهزة المعنية بمراقبة كل ما يجرى على الشبكة العنكبوتية .

وفى كل الأحوال فإن الإنسان هنا يمكنه أن يمتلك حرية الكذب على الآخرين برسم صورة لنفسه غير الصورة الحقيقية التى هو عليها بعض الوقت، لكنه لن يستطيع أن يمتلك هذه الحرية كل الوقت؛ إذ أن ما يسربه عن نفسه من معلومات يمكن – رغم كل الحيل التى يتبعها فى إخفاء معالم شخصيته – أن تكشف رغم أنفه عن شخصيته الحقيقية، ومن جانب آخر فإن كل من يمتلك جهازًا يتعامل  من خلاله فإنه بالتأكيد معروف لجهات المراقبة الأمنية الخاصة التى أنتجت هذه الأجهزة وتمتلك شفرة الوصول إلى مستخدمها أيًا كان مكانه وأيًا كانت الوسائل التى يستخدمها للتخفي.

وإذا ما عدنا إلى ذلك التمييز السابق بين نوعى الواقع، فإن هذا التمييز لم يعد من ناحية جامدًا كما كان فى السابق، ومن ناحية أخرى لم يعد ثمة تناقض قوى بين المعنيين؛ فمن الناحية الأولى فإن التحليل المعاصر العميق لأجسادنا وكل الأشياء المادية حولنا يمكن أن ترتد نظريًا إلى

" معلومات " ! إذ أن كل مفردة فى العالم المادى – فيما يقول العلماء - لديها فى قاعها الأعمق مصدر غير مادى وفقًا لفرضية «الشيء من البت it from bit»، فأعماق أجسادنا مصنوعة من معلومات وليس من قوام أساس مادى مختلف عما هو غير مادى فلسنا أمام أثنية بل أمام نوعًا من الواحدية يستند إلى الحالة؛ فكما أن الماء يختلف حالاته من السيولة إلى البخار أو الثلج، كذلك العقول والنفوس من جهة والأمخاخ والأجساد من جهة أخرى هى أشبه بحالات مختلفة من المعلومات. إن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يمكنها بسهولة جدًا – من هذه الزاوية – أن تجعلنا نقضى الكثير من وقتنا الواعى موجودين فى مكان آخر غير الموضع الذى نحن فيه جسديًا. ومن هنا نكتشف أنه لم يعد أمامنا سوى أن نقبل الواقعين معًا؛ فرغم أن الواقع المعبر عنه بالموضع أو المكان الذى أتواجد فيه شيء يختلف عن الواقع الواعى أو عن حالة الوعى التى أنا عليها، إلا أن هذا لا يتناقض مع ذاك، ولا ينبغى أن نتهم من يستخدمون هذا الواقع الافتراضى ويعيشونه بالضحالة والزيف، فالحقيقة أن درجة الوعى التى يشكلها هذا الاستخدام المفرط لأدوات التواصل المعلوماتية تؤثر إيجابًا بلا شك على وجودهم الموضعى المادي. ولنأخذ مثلاً على ذلك أولئك الذين يستخدمون هذه الوسائل فيما يعرف الآن بالتعلم الالكترونى أو التعلم التفاعلى عن بُعد، فهم يطورون من ذواتهم، وقد أصبح التعليم يقترن بالمعرفة أيًا كان مصدرها فلاشك أن مجتمع المعلومات يشهد الآن وفى المستقبل نموًا معرفيًا هو الأسرع فى تاريخ البشرية وهو بلا شك نمو نوعى وكمي.

والخلاصة أن هوياتنا الذاتية لم تعد مرهونة اليوم بالموضع المكانى الذى ولد فيه المرء وتعلم فيه، بل أصبح الجانب الأكبر منها يتعلق بكم المعارف ومصادرها ومدى النمو المعرفى الذى حققته فى درجة الوعى بذاتها سواء كان مصدر هذه المعارف محليًا أو إقليمًيا أو عالميًا. ولما كان التقدم المعرفى والمعلوماتى مصدره إلى الآن الدول الغربية المتقدمة فينبغى أن ندرك مدى إحساس شبابنا الذى ولد وترعرع فى ظل هذا العصر الانفوسفيرى المعلوماتى بالانتماء إلى الأرض والوطن الذى يعيش جسديًا فيه ! إن هذا الانتماء أصبح فى تراجع شديد نظرًا لأن الواقع الافتراضى والفضاء المعرفى الذى يتحرك فه هؤلاء الشباب ليس لدى الدول أو الحكومات المحلية أو لدى الأسر الشأن الأكبر فيه.

إن هوية هؤلاء الشباب وانتمائهم موزع بين انتمائين جسدى ومعرفي، ولما كانت ماهية الإنسان الفرد تتشكل من قدراته المعرفية وذاته الواعية وليس من مجرد الموضع الذى ولد فيه وحبس فيه جسده، فإن الانتماء الحقيقى لهؤلاء الشباب هو الانتماء المعرفي. وهذا هو التحدى الحقيقى الذى علينا أن نعيه كمواطنين ودول تقليدية ناقلة للمعرفة وليست صانعة لها؛ فبقدر ما سنظل غير فاعلين وغير قادرين على المشاركة فى صنع المعرفة المتقدمة، بقدر ما سنفقد أجيالاً من أبنائنا الذين لن يرضوا بديلاً عن زيادة نموهم المعرفى من أى مصدر كان وخاصة أن هذا المصدر أصبح الآن متاحًا وهم يملكون أدواته جيدًا. فهل ثمة تهديد للهوية والمواطنة والانتماء بمعانيها التقليدية أكثر من ذلك ؟!