رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

الميوعة فن.. وهو أكثر ما يزدهر فى أزمنة الاستبداد، باعتباره يوفر الفرصة لأصحابه للمراوغة وعدم دفع استحقاقات مواقفهم.. وهو كغيره من بعض الفنون يبدى البشر أنفة منها، رغم أنها تمثل جزءًا منهم، فليس أقسى على المرء من أن يوصف بأنه «إنسان مايع» رغم أنه يتنفس الميوعة كما يتنفس الهواء. وفى الأزمنة التى تكون فيها الأمم على المحك ينقسم أبناؤها إلى ثلاث فئات إحداها مع وثانيها ضد، وثالثها «ميّع» يميلون مع كل ريح. وإذا كان الصدق منجاة فى الآخرة، فإن الميوعة منجاة فى الدنيا.

وتعلمنا دروس التاريخ أن من لم يكونوا «ميّعا» هلكوا رغم أثرهم الذى أصبح فى عداد الخلود. فسقراط تمسك بفضيلة الشجاعة فكان مصيره الموت بتجرع السم بتهمة إفساد الشباب رغم أنه كان يمكن له أن يساير خصومه ولكنه أبى إلا أن يتمسك بموقفه مهما كانت العواقب، وواصل جرأته رافضًا الهروب الذى أعد له تلامذته وكان فى إمكانه أن يفعل. أما فى تراثنا العربى الإسلامى فقد ذاق أحمد بن حنبل فى محنة خلق القرآن من العذاب كؤوسًا دون أن يحيد عن موقفه قيد أنملة.

ولأن الحياة مجال للعظة والعبر فقد كان من الطبيعى أن تلقى مثل هاتين التجربتين وغيرهما بتأثيرهما على من لحقهما حفاظًا على الحياة والنجاة من العذاب، وهو ما انعكس فى أفضل تجلياته فى موقف جاليليو فى التراث الغربى حينما راح يؤكد على كروية الأرض، الأمر الذى عرضه للسجن والتعذيب والمحاكمة. ما دفعه لأن يتحلى بالحكمة ويتراجع عن أقواله مؤكدا أن الأرض ثابتة فى مكانها، وكل شيء يدور حولها. غير أنه ما كاد يخرج من المحكمة حتى راح يردد بين نفسه : ولكنها تدور فى نفى لكل ما ذكره أمام المحكمة مستفيدا النفاذ بجلده.

ومما يروى فى تراثنا الإسلامى فى إيثار السلامة والبعد عن التعبير عما يعتقده المرء، أن ياقوت الحموى الذى ترك العديد من المآثر على رأسها «معجم البلدان»، كان له رأى فى على بن أبى طالب فقاله؛ فلقى من العنت ما لقى فى مختلف أماكن حله وترحاله لدرجة أن الناس ثاروا عليه ثورة كادوا أن يقتلوه فيها فكان فراره بجلده من دمشق إلى حلب خائفًا يترقب حتى توصل فى النهاية إلى أنه من الأفضل والأسلم للإنسان أن يلتزم فضيلة الصمت إيثارا للسلامة من قمع القامعين وتربص المتربصين من الرقباء على ما يقوله من رأى أو فكر.. وكان من بين أقواله البليغة: إن طلب الأفضل مفقود واعتماد الأحرى غير موجود وحسبك بالمرء فضلا ألا يأتى محظورا ولا يسك طريقا غرورا.

ولأن لكل فعل رد فعل، فإن آليات القمع تولد آليات مضادة لمواجهتها، تتعدد وتختلف من مجتمع لآخر ومن فرد لآخر، فإذا كان الصمت حلا عند الحموى فقد سلك البعض نهجا آخر وهو الميوعة الكاملة بما يجعلك تحتار فى تصنيفه وهو ما يتجاوز ما هو معروف فى منطق الشيعة بمبدأ «التقية». وقد بدا لى أروع مثل على تلك الحالة ما قدمه خيال الكاتب الروسى ديستوفيسكى فى رائعته «الإخوة كارمازوف» على لسان إيفان الملحد شقيق إليوشا بطل الرواية حين كتب مقالا فى جريدة من كبرى الجرائد اليومية كان من الغريب أن ينال استحسان رجال الدين الذين اعتبروه مؤيدًا لهم بينما أخذ أنصار العلمانية وحتى الملحدون يعربون عن استحسانهم لما تضمنه مقاله، وهو ما يؤيد ما ذهب إليه البعض من أننا فى «الإخوة كارمازوف» لا ندرى ما إذا كان ديستويفسكى هو إليوشا المؤمن، أم إيفان المثقف الملحد. وقد يكون لتجربة سجن ديستوفسكى والتى شارف خلالها على الموت تأثير كبير فى هذه الصورة التى حرص خلالها على الغموض وعدم الوضوح.

وإذا كانت البشرية على مدار تاريخها لم تعدم من ضحوا بأنفسهم دون خوف أو وجل، فإن القاعدة كما يشير سلامة موسى فى كتابه «حرية الفكر»، أنه فى أزمنة القهر، ربما يتوارى الكثيرون حرصا على حياتهم رغم تأكيده على أن رقى الحضارة مرهون بالحرية الفكرية!

[email protected]