رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

على فكرة

لست مولعة بكرة القدم، وانحصرت علاقتى بهذه اللعبة فى متابعة المباريات الدولية  التى يكون الفريق القومى المصرى طرفا فيها. ولم أكن اعتبر ذلك ميزة،  إذ كان يخامرنى كثيرا  شعور بالعزلة وأنا أسمع هتاف المشجعين من حولى وصراخهم وتعليقاتهم  الغاضبة والفرحة مع كل مباراة،  لاسيما بعد أن تغيرت الأجواء الاجتماعية وباتت الأحياء السكنية التى نقطن بها، محاطة بكم هائل من المقاهى، تمتلئ بروادها منذ غروب الشمس وحتى مطلع الفجر، يشاهدون  عبر شاشات تليفزيونية ضخمة، طوال السهرة الممتدة، مباريات كرة القدم، ويتعقبونها  فى كل المحطات وبكل اللغات، ويعلو هتافهم  وتصفيقهم وصراخهم  الذى يخبو مع كل هزيمة ويشتد صخبه مع كل نصر.

وبعد نجاح المنتخب القومى بالهدفين اللذين سددهما الساحر «محمد صلاح» فى تأهيل مصر لكأس العالم فى موسكو العام القادم، بعد غيبة عنه قاربت الثلاثين عاما، تأملت بسعادة غامرة سلوك من حولى اثناء وبعد الفوز. التضرعات المجلجلة فى سكون الليل  المتجهة  صوب الأفق، تبتهل إلى الله عز وجل  بصوت جهورى يحفل بالرجاء «يارب.. يارب» والكابتن محمد  صلاح يتأهب فى الدقيقة التاسعة والخمسين من المباراة لتسديد الهدف الذى اقتنص به  الفوز بمهارة من الفريق الكونغولى.

جارتى المريضة التى تحاملت على نفسها وخرجت إلى الشرفة التى تعلق على حافتها  منذ الصباح الباكر علم مصر، وهى تصرخ بصوت جهورى نجح فى التغلب  على مرضها وهى تقول «انصرنا بقى يا رب» وما كاد الإله الكريم يستجيب للرجاء ويحرز محمد  صلاح هدف الفوز، حتى انطلقت زغاريدها لتطول من فرط قوتها وثباتها عنان السماء. والمدهش أن رواد المقهى أدنى شرفتها  ردوا على فرحتها بزغاريد مماثلة وربما أطول منها، وكانت هى المرة الأولى  التى استمع فيها إلى زغاريد من شباب فى مقتبل العمر، قبل ان تغمر المكان فى لمح البصر أعلام مصر بكثافة مذهلة، وتعج الشوارع المحيطة بالمنزل بجماهير غفيرة  تجمعت فور انطلاق صفارة الحكم بانتهاء المباراة، أتى بعضها من أزقة صغيرة، وجاء بعضها الآخر من سكان الشوارع الكبيرة، وكأنهم على موعد سابق فيما بينهم، لا يعرف أحدهم الآخر، لكنهم  صاروا فى لحظة فرح ملهمة ومعدية الكل فى واحد كما  قال  توفيق الحكيم، يتعانقون، ويرقصون ويهتفون معا بصوت يجلجل سكون الليل «مصر.. مصر.. تحيا مصر» بينما يستخدم سائقو السيارات الخاصة والعامة- التى توقفت  برضا  تام من فرط الزحام -كلاكسات السيارات كموسيقى تصويرية مصاحبة للهتاف، فضلا عن استعداد بعضها للحظة الفوز بتزيين السيارة بالورود والأعلام والزخارف الملونة. فى نفس الوقت الذى بدأت فيه محلات البقالة  والمكوجية وبائعى الخضر والفاكهة والصيدليات فى إذاعة الأغانى الوطنية عبر مكبرات للصوت وهو ما أغرى المتظاهرين بمواصلة الرقص والغناء لمطلع النهار.

لا يشبه الفرح حين يكون فرديا، مثله حين يكون مظهرا لفرح جماعى، يسع من فرط بهجته وجماله الأرض والسماء. ولأن المصريين شعب ذكى  محب للحياة، فهم يملكون دوما القدرة على التحايل على صعوباتها، وعلى عجزها عن الإنصاف، باقتناص  كل لحظات فرح عابرة، من قلب أجواء الألم والسخط والتهميش.

يذكرنى صلاح عبد الصبور فى واحدة من أجمل قصائده بتفرد هذه الشخصية المصرية حين يقول: الناس فى بلادى جارحون كالصقور، غناؤهم كرجفة الشتاء، فى ذؤابة الشجر، وضحكهم يئز كاللهيب فى الحطب، خطاهُمو تريد أن تسوخ فى التراب، ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون، لكنهم بشر، وطيبون حين يملكون قبضتى نقود، ومؤمنون بالقدر». وبرغم هذا التعقيد الذى تحفل به الشخصية المصرية، يعود الشاعر  فى قصيدة أخرى ليقول: أهل بلادى يصنعون  الحب، كلامهم أنغام، ولونهم بسام، وحين يسبغون يشبعون من صفاء القلب، وحين يظمأون يشربون من نهلة من حب، وحين يتقابلون ينطقون بالسلام، عليكم السلام، عليكم السلام».

الناس فى بلادى هم ملح الأرض وأجمل وأصدق ما فيها.