رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

< «النحاس»="" زعيم="" نبيل="" نزيه..="" يعيش="" فقيراً="" ويموت="">

< حادث="" 4="" فبراير1942..="" شكوك="">

< إنجازات="" الزعيم="" تاريخية..="" وانحيازه="" إلى="" الفقراء="" ليس="" محل="">

< جنازة="" النحاس="" تتحول="" إلى="" رد="" اعتبار="" لثورة="">

في الحلقة الأولى من الدراسة، يتوقف الباحث عند محطات مهمة في رحلة الزعيم مصطفى النحاس، كما يقدمها نجيب محفوظ في عالمه: الصراع مع الملك والأقليات، معاهدة 1936، ظاهرة الانشقاقات.

في الجزء الثاني من الدراسة، يتطرق إلى محطات أخرى لا تقل أهمية:

حادث 4 فبراير، الإنجازات الشعبية للنحاس، مرحلة ما بعد الزعامة والاعتزال الاضطراري للعمل السياسي.

< حادث="" 4="" فبراير="">

كانت واقعة 4 فبراير 1942 من الأحداث ذات الأثر الكبير في التاريخ المصري، وربما كان هذا الأثر يفوق حجم الحادث الذي تستغله أحزاب الأقلية لمهاجمة الوفد والتشكيك في النحاس، كما يستغله الملك فاروق وبطانته لتصوير الأمر بأنه بطولة من الملك وتآمر من الوفد وزعيمه.

يرصد عالم نجيب محفوظ الملابسات المختلفة المحيطة بهذا الحادث ويعرض لتأثيره على الوفديين  وأعدائهم من  المنتمين إلي  أحزاب الأقلية.

 

إسماعيل لطيف، في «السكرية»، وهو من اللامبالين سياسياً، يتصور الأمر بما يتوافق مع نظرته الذاتية الضيقة، كأنه «انتقام» شخص من النحاس لإقالة ديسمبر 1937: فاقتحم عابدين على رأس الدبابات البريطانية».

أما الوفديان رياض قلدس وكمال عبدالجواد في الرواية نفسها، فيدور بينهما حوار بالغ الأهمية، يعبر عن استيعاب رياض لحقيقة الموقف  من وجهة نظر وفدية، وتردد كمال وشكه «المثالي» على الرغم من وفديته الأصيلة:

« ليس النحاس بالرجل الذي يتآمر مع الإنجليز في سبيل العودة إلي الحكم. إن أحمد ماهر مجنون،هو الذي خان الشعب وانضم إلى الملك ثم أراد أن يغطي مركزه المضعضع بتصريحه الأحمق الذي أعلنه أمام الصحفيين.

ـ لا شك أن النحاس قد أنقذ الموقف، ولست أشك في وطنيته مطلقاً. إن الإنسان لا ينقلب في هذه السن إلى خائن ليتولى وظيفة تولاها خمس مرات أو ست من قبل. ولكن هل  كان تصرفه هو التصرف المثالي؟.

ـ أنت شكاك لا نهاية لشكك.. ما الموقف المثالي؟

ـ أن يصر على رفض الوزارة حتي لا يخضع للإنذار البريطاني وليكن ما يكون.

ـ ولو عزل الملك وتولى أمر البلاد حاكم عسكري بريطاني؟

ـ ولو!

ـ في هذه الظروف الحربية الدقيقة كيف يقبل النحاس أن يعزل الملك ويحكم البلاد  عسكري انجليزي؟ وإذا انتصر الحلفاءـ ويجب أن نفترض هذا أيضاً ـ فنكون في صفوف الأعداء المنهزمين، السياسة ليست مثالية شعرية ولكنها واقعية حكيمة»..

إنهما يتفقان، بلا ذرة من الشك، على وطنية مصطفي النحاس وإنقاذه للموقف، وينفيان فكرة التآمر التي يتهم بها، لكن كمال عبدالجواد يثير الشكوك حول مدى «مثالية» موقف النحاس، وهي مثالية لا تبالي بأن يعزل الملك فاروق، ويتولى السلطة في البلاد حاكم عسكري انجليزي!.

ويدور حوار مماثل بين نجيب محفوظ نفسه، الراوي، والوفدي العتيق رضا حمادة في «المرايا». يتخذ نجيب موقفا مشابها لموقف كمال، وتقترب رؤية رضا في أفكار رياض.

يعترف نجيب  ـ الراوي- بأن «موقعة» فبراير قد هزته من الأعماق، ورمت بوفديته في أزمة خانقة، والصديق المقرب رضا حمادة هو الذي يقنعه بسلامة موقف النحاس:

«إني أعتقد أن مصطفى النحاس قد أنقذ الوطن والعرش.

ـ تصور أن الدبابات البريطانية  تجيء بزعيم البلاد رئيساً للوزارة!

ـ لقد كان الإنجليز أعداءنا ولكنهم يقاتلون اليوم في الجانب الذي نرغب في أن ينتصر.

ـ ثمة خطأ يفري روحي كالسم!

ـ أتود للفاشستية أن تنتصر كما يود الملتفون حول الملك؟

ـ كلا طبعاً.

ـ فانظر إلى 4 فبراير إذن على ذلك الضوء.

محور الاتفاق بين رياض قلدس ورضا حمادة، أن دفع المخاطر الفاشية يأتي في المقام الأول من الأهمية في هذه المرحلة، وأن النظر إلى الحادث ينبغي أن يتم علي ضوء هذا الخطر، بينما يشترك كمال عبدالجواد ونجيب محفوظ، وما أكثر المشتركات بينهما، في رفض تدخل الدبابات البريطانية بما تحمله من رموز بغيضة، دون نظر إلى الاعتبارات السياسية والواقعية.

ينقسم الوفديون تجاه الحادث بين التأييد المطلق، والرفض الصارم، مروراً بالقلق والشك.

في «ميرامار»، يتمثل موقف الرفض عند الصحفي العجوز المتقاعد عامر وجدي،  الذي يؤدي الحادث إلي خروجه من الوفد، وانصرافه عن الأحزاب جميعاً: «لعلك تذكر أنني خرجت من الوفد، بل من الأحزاب جميعاً، منذ حادث 4 فبراير».

ويتبدى القلق والشك والانقسام، في تأثير الحادث على مجموعة الأصدقاء في «قشتمر»: وفي عز الشتاء بغتنا يوم 4 فبراير بدباباته وعودة الوفد المفاجئة الى الحكم. وارتفعت  الأصوات في قشتمر فيما بين سائر الزبائن وتضاربت الأقوال. الناس سعداء لعودة الوفد ولكنهم واجمون أمام  ما يقال من أنه  جاء على دبابات  الإنجليز. ولم يتردد طاهر عن أن يقول  سافراً:

ـ ألا ترون أن جميع رجالنا خونة؟!

وقال صادق:

ـ من العسير جداً أن يتهم انسان مصطفى النحاس بالخيانة، ولكني لا أدري ماذا أقول..

وقال حمادة  الحلواني:

ـ كل وزارة تجيء فبأمر الإنجليز، فلماذا نتكدر إذا توافق أمرهم مع رغبة الشعب!

أما اسماعيل قدري فلم يفتر حماسه ولا ساوره شك. لقد شك في كل شيء إلا الوفد. يبدو أمام الأفكار كالفيلسوف، ولكنه أمام الوفد مؤمن بسيط من عامة الشعب المتحمس، وقال بثقة:

- لا تشكوا فى الوفد وشكوا ما شئتم فيما يقال.

طاهر عبيد يتهم الجميع بالخيانة، وإسماعيل قدرى لا يراوده الشك فى سلامة موقف النحاس والوفد، أما صادق وحمادة فيقفان فى المنطقة الوسطى، لا يتهمان ولا يدافعان.

إلى رأى طاهر يميل مؤيدو أحزاب الأقلية، فأحدهم - طنطاوى إسماعيل المنتمى إلى الحزب الوطنى فى «المرايا» - يقول غداة الحادث: «ها هو زعيمك يرجع إلى الوزارة فوق الدبابات البريطانية، أسمعتم عن زعامة من هذا النوع من قبل؟».

وفى الرواية نفسها، يثور «أذيال الأحزاب» من الموظفين، متهمين الوفد بالخيانة: «أما الوفديون فقد فرحوا وطربوا ولم يجد بعضهم حرجا فى الرقص!».

ويتكرر التأييد «الراقص» للنحاس فى «الباقى من الزمن ساعة»، ذلك أن الحادث لا يزعزع وفدية حامد برهان: «بل يرقص السمار فرحا وشماتة بالملك»!.

التأييد المطلق لموقف الزعيم مصطفى النحاس، يتجلى فى آراء رياض قلدس ورضا حمادة وإسماعيل قدرى وحامد برهان والغالبية العظمى من الوفديين، أما الرفض والاستنكار فيمثله مؤيدو أحزاب الأقلية وقليل من الوفديين ذوى الضمائر مفرطة الحساسية، مثل عامر وجدى، ويتمثل الشك والقلق وغياب اليقين عن نجيب محفوظ نفسه وقرينه كمال عبدالجواد.

ويأبى أحد أصدقاء ياسين عبدالجواد، من السكارى المدمنين فى «السكرية»، إلا أن يحول الحادث إلى مادة فكاهية، فيعلق على مخاوف «خالو» صاحب حانة «النجمة» من التفكير فى إغلاق الخمارات، بقوله: «إذا كان الإنجليز قد دفعوا بدباباتهم إلى عابدين لمسألة تافهة هى إعادة النحاس إلى الحكم، فهل تظنهم يسكتون عن إغلاق الخمارات؟».

بين التأييد والرفض واللامبالاة، تأتى مقولة عباس فوزى فى «المرايا»، لتمثل ما يشبه «القول الفصل» فى تقييم الحادث بموضوعية صادمة: «قولوا فيما حدث ليلة أمس ما شئتم، ولكن من الانصاف أن نعترف لمصطفى النحاس بأنه أنقذ الوطن فى هذه المرحلة الحرجة من حياة الوطن».

ولعل هذه المقولة هى خير تعبير عن موقف نجيب، الذى لا يملك يقين المؤيدين، لكن ينأى عن الرفض والشك واللامبالاة.

الإنجازات الشعبية

فى شهادته «أمام العرش»، يعدد مصطفى النحاس بعض انجازاته: «بالرغم من أن الشعب لم يحكم إلا ثمانية أعوام نظير تسعة عشر عاما استبد فيها الملك وأحزاب الأقلية بالسلطة، وبالرغم مما تعرضت له من اضطهاد وعسف ومحاولات متكررة لاغتيال حياتى، فقد وفقنى الله إلى تحقيق خدمات غير قليلة، منها على سبيل المثال: إلغاء الامتيازات الأجنبية، إلغاء صندوق الدين، تأسيس جامعة الدول العربية، استقلال القضاء، استقلال الجامعة، قانون التوظف، منع الأجانب من تملك الأراضى الزراعية، التعويض عن اصابات العمل والتأمين الاجبارى ضدها، الاعتراف بنقابات العمال، فرض استعمال اللغة العربية فى الشركات الأجنبية، الضمان الاجتماعى، ديوان المحاسبة، مجانية التعليم الابتدائى والثانوى والمتوسط».

إذا كانت هذه بعض إنجازاته المادية الملموسة، فإن مديح اخناتون له، خلال المحاكمة، يكشف عن بعض سماته المعنوية الايجابية: «مثلى أيضا فى حب البسطاء من الشعب والاختلاط بهم دون حاجز من التعالى أو الكبرياء، ومثلى تعرضت لعداوة الأوغاد وعباد السلطة وأسرى الأنانية حيا وميتا».

لقد كانت شعبية النحاس «سابقة التجهيز» على اعتبار أنه خليفة سعد زغلول فى قيادة الوفد، لكنه استطاع أن يحقق تحايزًا ذاتيًّا أهله للمقارنة بسعد، بل للتفوق عليه عند بعض الوفديين.

فى «السكرية»، يقول على عبدالرحيم:

«يا رجال! ما رأيكم فى مصطفى النحاس؟! الرجل الذى لم تؤثر فيه دموع الملك الشيخ المريض فأبى أن ينسى ثانية واحدة مطلبه الأسمى.. دستور 1923.

ففرقع محمد عفت بأصابعه وقال فى سرور:

- برافو.. برافو.. إنه أصلب من سعد زغلول نفسه.

فضلا عن الصلابة، كان النحاس كما يوصف فى «أمام العرش» زعيما فقيرا: «استمد قوته من إيمانه بشعبه وإلهه، واتسمت حياته بالكفاح الطويل والنزاهة، وقد عاش فقيرا ومات فقيرا».

كان فقر مصطفى النحاس عاملا مهما فى الدفع به إلى مكانة سامية عند قطاع عريض من الوفديين الفقراء، يميزون بين سعد زغلول «الزعيم العبقرى» و«مصطفى النحاس» «الزعيم النقى».

فى مرحلته الوفدية، يبدو عجلان ثابت، فى «المرايا»، هو أكثر المتحمسين لهذا التمييز. يقول للراوى:

« - لا تحترم طالبا غير مهتم بالسياسة، ولا تحترم مهتما بالسياسة إن لم يكن وفديا، ولا تحترم وفديا إن لم يكن فقيرا.

ويرد الراوى:

- ولكن سعد زغلول لم يكن فقيرا!

فيقول عجلان:

- أما مصطفى النحاس فزعيم فقير.

ويتساءل الراوى:

- هل تعنى أن مصطفى النحاس خير من سعد زغلول؟

وتأتى الاجابة منحازة للنحاس:

- كان سعد زغلول عبقريا، أما مصطفى النحاس فإرادة نقية».

>بعد الزعامة

بقيام ثورة 23 يوليو، تتغير الخريطة السياسية فى مصر، ويتوارى الزعيم الجليل مصطفى النحاس مجبرًا على الاعتزال.

تتغير الخريطة وتتبدل معها المقاييس، وينهال الهجوم على ما قبل يوليو دون تمييز بين صالح وطالح، تعبر قصة «ذقن الباشا»، مجموعة «الفجر الكاذب»، عن حيرة الجيل الذى يعاصر ما قبل الثورة، وهو يواجه متغيرات لا يقوى على التصدى لها إلا بالسخرية: «وكنا إذا تحدانا سؤال مستفز مثل «من يكون سعد زغلول؟» أجبنا بكل تواضع «كان محاميا ناجحا» أو «من يكون مصطفى النحاس؟ قلنا بمنتهى اللطف كان تاجر منى فاتورة بالغورية».

فى ظل هذا المناخ العدائى الجاهل، تبدو جنازة مصطفى النحاس مفاجأة بكل المقاييس. يطل خبر الموت فى «الباقى من الزمن ساعة»: «ارتفع صوت فى الراديو ينعى أثرا من آثار الماضى، جهله الجيل الجديد، وعرفته قلة كرمز للخيانة، نعى الراديو مصطفى النحاس».

يقول المحامى الوفدى عبدالقادر قدرى فى تأثر: «سيشيع غدا فى جنازة لا تليق بمقام راقصة درجة رابعة».

رؤية تشاؤمية تتكئ على معطيات الواقع: «لكن الجنازة كانت انفجارا بركانيا غير مسبوق بإنذار.. أى طوفان من جموع بلا نهاية. أى هتافات تتطاير بشواظ القلوب. أى دموع تترقرق فى الأعين أى حزن يغشى الشيوخ والشباب، أجل والشباب أيضا.

كيف فرضت هذه الزعامة نفسها على القلوب ساعة الوداع، بعد أن توارت عن السمع والبصر، وغطتها أيدى الرقباء برداء «النسيان».

ويعلق الوفدى نادر برهان، فى «المرايا»، على جنازة النحاس بقوله: «هل شاهدت جنازة مصطفى النحاس؟ كانت رد اعتبار شعبى لسعد وللوفد ولأكبر ثورة شعبية فى حياتنا».

..........

العجوز الحكيم محتشمى زايد، فى «يوم قتل الزعيم»، يعد جميع زعماء مصر من الشهداء: «مصطفى كامل شهيد الجهاد والمرض، ومحمد فريد شهيد المنفى، وسعد زغلول شهيد المنفى أيضا، مصطفى النحاس شهيد الاضطهاد».

كان الزعيم مصطفى النحاس، بحق، شهيد الاضطهاد.