رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

.. في بداية الثمانينيات تعرفت على ولد مصري بشرته بلون طين مصر الأسمر وفي صوته بحة لا تفارقه بل إنها تزداد مع الزمن ، وكان يحلو له أن يشبهه البعض بالعم صلاح السعدني وكان رمضان السرساوي من أوائل الشباب المصري الذي ذهب الي عاصمة الضباب بحثًا عن حياة جديدة بعد سلسلة من التجارب في مصر كان يمكن  لها أن تتصل لولا قصة حب كان  السرساوي فيها صادقًا ومحبًا من كل أعماق القلب ولكن القصة لم تنته كما هي نهايات الأفلام العربية فذهب الى أبعد نقطة ممكنة.. ولم يكن يعلم من الانجليزية سوى «يس» و« نو» و«أوك» ومع ذلك اتجه للإقامة والعمل في أرقى منطقة في لندن هولاند بارك وهي مقر اقامة عائلة الليدي  ديانا والطبقة الارستقراطية، واستطاع السرساوي أن يجد سكنا في أحد الشوارع المتفرعة من شارعها  الرئيسي وفي  هذا الوقت كان هناك من اليونان والجريج ناس هاجرت من مصر واتجهت الي لندن وفتحت أبوابًا للرزق هناك وحرصوا على أن يكون هذا المصري السرساوي هو المؤتمن علي مصالحهم وبالفعل عمل رمضان السرساوي علي الخزنة وتعلم الانجليزية بعيدًا عن المحل اليوناني لأن صاحب المحل وصاحبته كانا يتحدثان العربية بطلاقة وكانت اللهجة المصرية هي لعبتهم وذات يوم عرض صاحب المنزل على السرساوي في النصف الأخير من السبعينيات مبلغ 20 ألف جنيه إسترليني ليخلي شقته.. لم يفكر السرساوي كثيرًا في الأمر وقبله على الفور وكانت ثروة هائلة في ذلك الزمان ولكن السرساوي الذي كان صاحب «كيف» وحيد وهو التدخين.. فهو عاشق لأشرس أنواع السجائر «الدانهيل» وللمعسل الزغلول.. لف لندن بأكملها حتي عثر على شيشته المفقودة وظل هناك زبونًا دائمًا على صاحب المقهي وبحث عن عمل وكان يجيد القيادة فتقدم لاختبار لقيادة أتوبيس بدور واحد.. ونجح في الامتحان.. ولكن رمضان لم يجد نفسه في هذا  العمل ،صحيح أنه صادق كل الناس الذين ركبوا معه طوال أكثر من 4 سنوات وكان يقف للجميع حتي خارج محطات ومواقف الأتوبيس ليحمل سيدة عجوزًا أو رجلًا مسنًا أو سيدة تحمل رضيعًا ولم يكن يدقق كثيرًا مع الأطفال أو الشباب الذين لا يدفعون  ثمن التذكرة ويشير اليهم بالركوب ويرحب بهم وكأنهم أصحاب الأتوبيس.. وكان السرساوي يقوم بترجمة النكت المصرية ويلقيها على مسامعهم فتصبح الرحلة مع الركاب متعة وصحبة وليست  مجرد عمل فقط يؤديه.. وعرف السرساوي مسالك لندن كلها وقرر أن يشتري سيارة ليعمل عليها «ميني كاب» وهي شيء أقرب إلي الأوبر وكريم.. وبدأت رحلته الطويلة التي امتدت إلي أكثر من أربعين عامًا في شارع ايدجوار رود الذي هو شارع العرب المفضل في لندن.. كان لرمضان زبائن من نوع  آخر وهم العرب والمصريون القادمون إلي لندن وقد أصبح السرساوي يتحدث الانجليزية ولكن بلكنة أهل القناطر الخيرية، استطاع أن يحصل على الجنسية البريطانية بعد أن تزوج وجمع الديانات الثلاث.. أولى زوجاته كانت يهودية وهي سيدة شديدة الطيبة تزوجت السرساوي من أجل  البهجة فهي لا  تتوقف عن الضحك في حضرته ولذلك وحتى بعد الانفصال لم تستطع زوجته الأولي الابتعاد عنه فكانت تحرص علي لقائه كل أسبوع للذهاب إلى السوق الشهير «أولدجيت» وكان رمضان عندما يحكي عن زوجته يتذكرها بالخير فهي أول من مد اليه يدا وأول شخص يحنو عليه في غربته وكانت تقول له إن الشقة الفارهة التي تسكنها بمفردها مصيرها سوف يكون للسرساوي بعد أن تغادر عالم الأحياء ،وكان حلم السرساوي أن يضع يده على هذه الشقة لكي يبيعها ويعود إلي مصر ثريًا، خصوصا والجنيه الاسترليني تعدى رقم الـ 20 جنيها مصرياً.. وقد حدث أن تخلص السرساوي من كل زيجاته في  بريطانيا وأصبح حرًا لا تقيده قيود وأما شقته التي حصل عليها من الحكومة  فقد تحولت منذ أكثر من35 عاماً الي  مأوى لكل مصري يمر بالعاصمة البريطانية وقد كان السرساوي يستقبل المصريين خصوصًا من أهل بلدته في القناطر الخيرية ويوفر لهم الاقامة والطعام  ويسعى وسط أصحاب المحلات في الشارع الشهير لكي يجد لهم عملا وبالفعل كان للسرساوي في حياة هؤلاء البسطاء مكان لا يضاهيه فيه أي مخلوق.. فهو عمدتهم وكبيرهم وقاضيهم والأب الروحي لهم جميعًا فقد كان انفع خلق الله لعباد الله فعلاً.. وكان الاشقاء العرب القادمون إلي لندن إذا ما تعرفوا علي السرساوي فإنهم لا يتركونه أبداً.. احدي السيدات قالت له.. انها تحرص على زيادة كل عواصم أوروبا ولكنها أبداً لم تلتق بمخلوق مثله في أي مكان في العالم وطالبته أبن تستأجره لكي تضحك أكبر فترة ممكنة.. وكان السرساوي إذا أحب أحدهم سبه بأمه وأبيه.. وهنا خرجت من فمه إحدي الكلمات التي لا  تصلح للنشر فإذا بالسيدة إياها تستلقي على قفاها من الضحك وتحولت إلى مدمنة لشخص رمضان شأنها شأن كل من اقترب من سحر شخصيته وخفة ظله التي لا نظير لها .في منزل السرساوي كان هناك في لندن «المش أبو دوده» والجبنة الدمياطي والفطير المشلتت والملوخية والبامية والعسل الأسود وكل ما يمكن أن يربطك بالريف في مصر وخيراته التي لا تنتهي.. ذات مرة سأله الولد الشقي طيب الله ثراه.. مافيش قصب هنا ياواد يا رمضان.. فضحك السرساوي ومال على شخصي الضعيف وقال.. هو عم محمود فاكر أنه قاعد على الزراعية.. وفي المساء غاب السرساوي قليلاً وجاء بعودين قصب صعيدي لا أحد علي وجه الاطلاق يعلم من أين حصل عليهما.. كان السرساوي نبتًا خرج من أرض مصر، وصحيح أنه خرج منها ولكن مصر الطيبة الودودة الشقية المحبة للحياة المجملة لها لم تخرج أبدًا منه ،لقد مرض السرساوي بمرض خطير نهش قفصه الصدري وحذره كل الأطباء من أن التدخين سوف يعجل بحياته وكان السرساوي يتلقي العلاج الكيماوي والإشعاعي ويستعجل الأطباء للسرعة لأنه علي موعد هام مع شخص شديد الأهمية وبمجرد أن ينتهي من تلقي العلاج.. يذهب إلي نفس المقهي الذي تعود الجلوس عليه منذ 40 عامًا ليلتقي بأهم شيء في الحياة الشيشة التي كانت متعة حياته الحقيقية.. واختار السرساوي الموت المستعجل علي مفارقة حبيبته الشيشة.. ومضى  إلي رحاب ربه وخرج خلفه أعداد من المصريين لا حصر لهم ،هم كل هؤلاء الشباب المصري الذي لا مثيل له في الجدعنة والرجولة.. كان عليهم الدور لكي يردوا للسرساوي الجميل وأخرج كل منهم ما في الجيب لكي يدفعوا تكاليف عودة الرجل الذي كان الأب  الروحي لهم.. فإذا بالأرض تنشق برجل أعمال ولكن من نوع شريف صنع ثروته بدون تحايل وبعرق الجبين وشقا السنين اسمه هشام.. تكفل الرجل الذي لا أعرفه شخصيًا مع الأسف بكل مصروفات عودة الجثمان إلى أرض الوطن.

رحم الله السرساوي وكل من هم على شاكلته ،هؤلاء الذين أحبوا مصر وخدموا  المصريين دون انتظار أي مقابل..