رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

في "البشر والسحالي".. القصة القصيرة تبلغ "سن الرشد"

بوابة الوفد الإلكترونية

لا تسعى الوصفات العابرة للأنواع إلى خلخلة الأشكال الأدبية الرصينة بغية إتاحة فضاء غير محدود من الحرية، حسبما يروِّج "الوكلاء المحليون" لدى الغرب؛ الذين يصدِّرون لنا زبالة العولمة، ويملأون بها أسواق "البالة" الثقافية. إن محاولات فك الشعر (الذكر) الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، وتفكيك القصة أو الرواية (الأنثى) بكل عظمة إرثها الحديث؛ تهدف إلى توفير سقف فكري لتمرير خلطة أو اختلاط الهويات الجندرية. إنها باختصار: توظيف الإبداع لصالح السياسة والأيديولوجيا. عبور فني لدعم عبور جنسي، وسيولة فنية لخدمة خنوثة بيولوجية.

 

  في مجموعته "البشر والسحالي" يحاول حسن عبد الموجود مع أصوات قليلة نادرة (فرانز بارتل وأليس مونرو مثالين) بث الروح في القصة القصيرة بعد احتضار طويل، وإعادتها للواجهة من الباب الواسع، بعد أن كادت تؤول إلى متحف النسيان. لا يدعي أن ما يقدمه "كتاب قصصي" مثلما يشاع مؤخراً عن مجموعات قصصية تنحدر إلى لغة وأجواء صحفية خفيفة، ولا يزعم أنه يقدم كتابة "عبر نوعية" كتلك التي بُح صوت إدوار الخراط وهو ينادي بها، إلى أن دُفنت معه في مثواه الأخير. يكتب حسن عبد الموجود القصة القصيرة، وكفى. يضخ دماء جديدة في شرايينها، ويخلصها من "طفولتها" التي صاحبتها عقوداً وراء عقود. كأنه يريدها أن تبلغ سن الرشد أو النضج، بعد أن سجنوها في دور البنت الجميلة المدللة عبر "اللقطة" و"الومضة" و"القصة القصيدة" وغيرها من أثواب أو ألعاب مكررة وبالية.

 

 

  إذا كان ميلان كونديرا -بدءاً من "الخلود" تحديداً- لا يكتب رواية بقدر ما يحاول إنقاذ فن الرواية، فإن حسن عبد الموجود يقدم طريقة إنقاذ للقصة القصيرة؛ بدأها في "حروب فاتنة" وبلغت ذروتها في "البشر والسحالي". عند كونديرا، تتحول الشخصيات إلى أوعية يصب فيها أفكاراً فلسفية عميقة تبلغ حد "التقرير" أحياناً وتنأى بها عن الثرثرة المجانية دون تفريط في "روائية" رواياته، وعند عبد الموجود تحمل القصة القصيرة أفكاراً وهموماً إنسانية (كبرى) ساد الظن الشائع بأن جسدها "الصغير" لا يقدر على حملها أو احتمالها، إضافة إلى الأهم: حرصه على عناصرها (هل لي أن أقول الكلاسيكية؟) الرئيسية من أشخاص ومكان وزمان وحدث، ووعيه الحاد بأنها، مهما طالت، قصة و"قصيرة" لا يُفلت خيوطها من يده، ولا تبتلعها خبرته الروائية.

 

  عشر قصص، لا أكثر، يعود فيها الكاتب إلى منطقته الأثيرة؛ طفولته في الصعيد، ليستخلص منها أعمق ما فيها. "وجبة" مشبِعة في كل قصة، لا "بنبونه" تذوب سريعاً في الفم، كما في كتابات تنتمي لهذا النوع. حياة كاملة يشارك فيها بشر وزواحف وحشرات وحيوانات (حيوانات حقيقية، لا تلك التي تحولت إلى زينة تجارية مثيرة للشفقة في سلاسل إمدادات التوريد العالمية) مع حذر تام من الوقوع في فخ الغنائية أو "الفولكلور".

 

 

   في قصة "الخنزير" يتناول الكاتب معضلة "قبول الآخر" التي صارت مملة ومبتذلة لكثرة التجارة بها وفيها؛ من خلال حس فطري إنساني، دون وعظ ولا إرشاد ولا تعليمات حكومية ولا "صوابية سياسية". عشاء مع أسرة مسيحية رغم تحذيرات الأهل؛ يمزج فيه تفاصيل شديدة المحلية مع تيمات ثقافية أوروبية، لنضبط أنفسنا "نتعشى" معه على اختلاف قناعاتنا ودياناتنا.

 

   وفي "الكلب" و"الديك" و"العقرب"، يرد اعتبار قيمة "الأبوَّة" مقابل شيطنتها منذ أواسط القرن الماضي تحت ضغط الاستيراد "الحداثي" لكليشيهات "قتل الأب" رمزياً وجسدياً وزرعها بالقوة

في الثقافة العربية؛ وهو اتجاه يبدو أنه يتنامى حالياً نثراً وشعراً بعد تغييب (وتسفيه) طويل، ويمكن ملاحظته بجلاء في القصائد الأخيرة للشاعرين أحمد شافعي وياسر الزيات. (هل آن الأوان، في السياق نفسه، لإنصاف حنان القبيلة أمام استبداد الدولة؟). ترصد عين الكاتب في قصصه الثلاث تفاصيل شديدة القسوة للعجز والمرض والقهر، التي تصيب "رب العائلة" حتى نحس أن الابن، لفرط ما يعاني من ألم وما يجتاحه من حب؛ هو أبُ أبيه، أو أمُّ أبيه!

 

  وتطرح "التيس" و"أبو دقيق" و"الدودة" تحديداً (أعتبرها واحدة من أفضل وأقسى قصص المجموعة حتى أنها تبدو عصية على القراءة أو الاحتمال) ثنائية الجوع والفقر، عبر أجواء تذكرنا بروح كل من المعلم العظيم نيكوس كازنتزاكيس في "القديس فرنسيس" وإدوار الخراط في تحفته "حجارة بوبيللو"، حيث لا يتحقق شرف الكاتب إلا بالتماهي التام مع الحضيض.

 

  وتسعى قصص "القط" و"السحلية" و"الحمار" إلى إعادة إحياء الميثولوجيا الريفية المصرية التي اندثرت أو أوشكت على الاندثار، عبر غرائبية أو "واقعية سحرية" محلية خالصة (لا مستوردة من أمريكا اللاتينية) وبالغة الدهشة والطرافة.  

 

  يتحسَّر الأمريكي ستيفن ميلهاوسر في مقاله "طموح القصة القصيرة" على حال هذا النوع الأدبي الفاتن الذي اكتسحته السوق الروائية، حيث "هنا، في أمريكا، الحجم هو القوة". تسعى الرواية لامتلاك العالم، بينما تعلن القصة القصيرة عن ذاتها بتواضع، وتفتخر -لو افتخرت- بمزاياها على استحياء. يتخيلها تخاطب الرواية قائلة: "بوسعك أن تملكي كل شيء، أي شيء، وجلُّ ما أطلبه هو حبة رمل واحدة". حبة الرمل الضئيلة تلك يمكن أن تحيلنا إلى المحيط الذي يرتطم بالشاطئ، والسفن التي تمخر عباب ذلك المحيط، والشمس التي تنعكس على السفن، والريح الموسمية، وجلسات الشاي في صباحات وأمسيات المصطافين؛ "إنه بناء كوني كما ترى". ويمكنني القول، انطلاقاً من ميلهاوسر، أنني عثرت في "البشر والسحالي" على عشر حبات رمل، لا حبة واحدة، تنطلق من جغرافيا ضيقة وخانقة إلى براح إنساني واسع، دون استعراض عضلات لغوية أو ثقافية.

 

أخيراً، يختم عبد الحكيم قاسم دراسته النادرة عن ديوان "الوطن الجمر" للشاعر محمد صالح، قائلاً: "إنني أصلي للرحمن الذي خلق الإنسان وعلمه البيان"، وها أنا أختم بمقولته نفسها.