نسيم الخوري يكتب :قراءة مختلفة في دماء بيروت
بين لحظة وقوع الانفجار الرهيب في ساحة ساسين في الأشرفية في بيروت، ولحظة وقوع نظري على »الدالية« ابنتي البكر المحامية الشابّة صفراء تنزف في مستشفى الروم مثل ورق الحور في تشرين، قطعنا ألف عامٍ من المشاعر والصور والأهوال والدموع التي لا يمكنني التقاط غبارها، كونها تتجاوز أبجديات
البشر . لا يعرف سوى الأهل، أي الأمهات أوّلاً والرجال ثانياً، كيف يعربش الأولاد ويلتفون حول شراييننا وأعمارنا عبوراً نحو تمكين الذات، في لعبة تعاقب الأجيال . نجت داليتي والحمد لله ولم تتعثر حبال الصرّة، وأدعو بأن يجعلنا نغيب جميعاً قبل أن نسمع وقع خوف أطفالنا أو صراخهم . يكفي هذا المطلع الذي يمكن تعميمه على الرقعة العربية وعلى ما حصل في لبنان من تهشيم يستحيل لحمه ووصله . وكي لا نسفّ، نقول نحن في لبنان كما في الكثير من العواصم الشرق أوسطية نبدو وكأننا نقيم في الغابة، من دون نسيان طقوس الموت وهندسة الغرائز في الغابات . نعم نحن نقيم في غابة لبنان حمى قاطنيها من هؤلاء . من هم هؤلاء؟ لم ولن نجد الجواب لتعددهم، لكننا نستطيع أن نصفّ النقاط . . . . كي يتشكّل هذا الفراغ الطويل أمامنا، وليملأ القرّاء بمخيلتهم هذا الفراغ بالكلمات والأوصاف المناسبة . الهدف أن يتشارك الكاتب والقارئ لا بمتعة القراءة أو لذّة الحبر، بل بمدى المرارات والمخاوف والعذابات التي باتت تحيق بنا في لبنان .
كنا نتصورأننا أكلنا الحروب في لبنان وقطعنا جذوعها، لكنها عادت تنبعث أوراقاً تطلّ من تحت التراب وحفر التفجيرات . وعاد لبنان في الساحات والشاشات والمقالات وعلى ألسنة السياسيين يتوشّح بالدم ووقف الحوار ويستخدم مصطلحات مثل الاصطدام والحرب الأهلية والفتنة والقتال والتقسيم والأقنعة السود والأسلحة المرفوعة، وهو واقع ملفوف بالجرائم السياسية المثيرة التي أربكتنا في القانون والدستور، والمضي في الحياة إلى النكايات والقهر والخوف والعوز والتربص والتحريض والشتائم والفجيعة التي تطل برأسها من خلف فجيعة أخرى . . إلخ، من المصطلحات التي كنا نظنها قد يبست فوق النصوص والألسنة، على الرغم من أن ميراثها الدموي لم يجف بعد في جروح اللبنانيين الكثيرة . يبدو أن سياسيينا قد غفلوا عن واقع لبنان المتشظي في مواطنيه الكثر المتمرمرين المبعثرين في مدن الدنيا وفوق أرصفتها، إن لم يكونوا في المصحات والمستشفيات ومراكز العلاج الفيزيائي والمقابر! وكأنه كتب على هذا اللبنان أن يكون حقيبة متنقلة أو وطناً محمولاً بين حرب وحرب، أو قطع من زجاج متهشم يستحيل إعادة تركيبها في تاريخ مقرف يغوص في الشهادات التي لم ولن يعرفها وطن صغير عظيم بهذا الحجم . وفي الظن أن اللبنانيين لا يعرفون أو أنهم يتناسون نعمة أن ينتمي الإنسان إلى وطن صغير رائع مثل لبنان .
يدفعني توجس الحبر ورجفته إلى إعادة رسم لوحة الانهيار اللبناني ورفعها في وجوههم لربّما نتّعظ ونتذكر لوحة الحروب اللبنانية وفصول الانهيار التي تدمغ الأدمغة والشرايين . وهذا يعني محاولة مني لعصر الحروب اللبنانية المتراكمة فوق أكتافنا ورفع الغطاء عن عقدين من الحروب اللبنانية في تناقضاتها، ومآسيها، ومسبباتها، وأساليبها ونتائجها البشعة التي غدت مضرب الأمثال . وتظهر الصعوبة في عزل مسائل مثل المحكمة الدولية والحكومة الوفاقية ورئاسة الجمهورية، عن غيرها من المسائل الجوهرية الأخرى، مثل الطائفية والوفاق والتجزئة والصيغ الوطنية والانتماءات الوطنية والتحولات الاجتماعية والديمغرافيّة والثقافية والإعلاميّة . . . لطرح سؤال واحد: هل يتذكّر اللبنانيون ماذا حلّ بوطنهم؟
نعصر ملف الحروب ونصفّيها، لنبرز حجم الكارثة البشرية التي حصدت الآلاف، وهدّمت حضارة وخربت بلداً من بلدان المتوسط الراقية، وكلّفت إعادة إعماره مليارات الدولارات وخطاباً منقسماً ومتوتراً في المديونية العامة . وتتناقض الأرقام في هذا المجال . فبينما نرى مثلاً أن »مسلسل العنف في لبنان بالتراشق
لا يتضح كلام من هذا الوزن إلا إذا عرفنا أن 192 قرية وبلدة متوزعة على المناطق اللبنانية كافةً قد دمّرت وهجر أهلوها . . . إضافة إلى بيروت الكبرى عاصمة التدمير حيث انهيارات الطوائف كلها وخصوصاً الموارنة والشيعة والدروز . وهذا الرقم هو بالطبع خارج العدد الذي يصل إلى 374 قرية جنوبية قصفت من أصل 461 قرية مجموع قرى ومزارع الجنوب، أي بنسبة إجمالية 12 .81 في المئة .
أمس قالت ابنتي الجريحة بعدما بدأت تستجمع شظاياها الداخلية: سأكرّس يدي الجريحة للتمرّس على كتابة اللوائح وتنسيق الدعاوى بحثاً عن الحق والحقائق والحقيقة والدفاع عن عظمة الإنسان .
ليتنا نتذكّر، فنخرج نهائياً من الساحة إلى الوطن ومن السلطة التي تتجاوز في إدمانها المخدرات، إلى تواضع القلب وهدأة الرأس والعقل الذي خلقه ربّك فوق يديك، ومن فوقهما خلق القيم والأخلاق ومسيرة الإنسان .
نقلا عن صحيفة الخليج