الثورات في الشرق الأوسط بين الرؤية الإستراتيجية
الثورة عادة هي اداة من أدوات التغيير في المجتمع، وتتسم الثورات بأنها مفاجأة، وان كان لها ارهاصات وشواهد تسبق الانفجار الثوري،
وهي جماهيرية وان قادتها نخبة من الناشطين السياسيين أو الايديولوجيين، وهي تدعو للتغيير الجذري، وان بدأت حركة مطلبية، فانها سرعان ما تتحول لحركة للتغيير الشامل، ولكن كما يقال: ليس كل ما يتمني المرء يدركه، فإن بعض الثورات تواجه نكسات أو ثورات مضادة، وكثير من الثورات لا تحقق أهدافها في المدي القريب، رغم انها في المدي البعيد تحدث تغييراً جذرياً في حركة المجتمع.
وتعاني كثير من الثورات من ثلاث نواقص: البعد الاستراتيجي المستقبلي بمعني أن الثورة باعتبارها حركة جماهيرية تدعو للتغيير الشامل تقع في مأزق الزهو والغرور، خاصة اذا واجهت نظما ضعيفة، وانهارت تلك النظم بسرعة، ومن ثم تتصور الحركة الثورية ان عملها أمر سهل، وان تغيير المجتمع مسألة بسيطة، وهنا يظهر المأزق الأول أو النقص الأول وهو النظرة المستقبلية لتطور المجتمع، فكما هو معروف ان تغير المجتمع ثقافياً واجتماعيا ليس مسألة سهلة مثل التغيير الشكلي أو التغيير القانوني أو التغيير التكنولوجي، فاستيعاب المجتمع باعتباره أفرادا لعملية التغيير أقل سرعة من استيعابه للتكنولوجيا، ولعل أبسط نموذج علي ذلك من قبيل التشبيه هو شراء سيارة وقيادتها مقابل تفكيك السيارة واعادة تركيبها. فهنا ندخل في صناعة السيارة أو صناعة المجتمع، وهذا البعد الاستراتيجي المستقبلي يحتاج لتطور التركيبة الذهنية والسلوكية للمجتمع بمعني انه يحتاج لوقت. ومن هنا برز في الفكر السياسي الثوري ما عرف بنوعين من المراهقة اليسارية من ناحية، واليمينية من ناحية أخري، وكذلك حركات التطهير الثورية، وجدنا ذلك بوضوح كبير في الثورة الصينية وفي الثورة الروسية وأيضاً في الثورة الفرنسية.
النقص الثاني في الحركة الثورية هو نقص الايديولوجية أو العقيدة السياسية. فكثيرمن الثورات بما في ذلك الانقلابات العسكرية التي تتحول الي ثورات مثل انقلاب 1952 في مصر انقلاب 1958 في العراق وهما من أشهر الانقلابات العسكرية التي تحولت الي ثورات في المنطقة العربية، فضلا عن انقلاب 1962م في اليمن وانقلاب 1969م في ليبيا، وهما تحولا الي ثورات ولكن جوانبهما السلبية أكثر من ايجابياتهما، وبرز فيهما مثل الانقلابيين في مصر والعراق بصورة واضحة نقص البعد الايديولوجي المتكامل.
البعد الثالث الذي يمثل نقصا في العمل الثوري هو البعد القيادي. فالثورة الفرنسية علي سبيل المثال، وهي من أشهر الثورات العالمية التي لم تتوافر لها قيادة محددة، واستمر الصراع بين قياداتها عدة سنوات، حتي وصلت القيادة لنابليون بونابرت الذي انطلق بها الي حركة توسعية في أوروبا، وتوسعية في الخارج، اتصالا بالتنافس الأوروبي، ولذلك قام بحملته لغزو مصر عام 1798، وانتهي به الأمر لصراعه مع القوي الأوروبية، دون تخطيط، ودون رؤية واضحة دون دراسة لتوازن القوي الأوروبية بينه وبين خصومه الي اخفاق الثورة الفرنسية، ونفي نابليون الي سانت هيلانة وموته هناك.
بعبارة أخري، فإن انعدام وجود قيادة واضحة وايديولوجية متكاملة ونظرة استراتيجية ترتبط بالأولويات وتحددها بوضوح يمثل أكثر مثالب اية حركة ثورية، ومن هنا نجد كثيرا من الحركات الثورية تنجح علي المدي البعيد مثل الثورة الكوبية أو الثورة الصينية أو الثورة الروسية، ومع هذا فإنها تخفق ايضا علي المدي الاستراتيجي. ولعل مرجع ذلك، هو عدم قدرة الثورة والثوار علي رسم خريطة متكاملة للعمل الثوري تعتمد منهج الاطار الزمني والتغير الجذري للمجتمع بما يحقق طموحاته.
ولعلنا نتذكر أن الثورة في احد تعريفاتها هي تغيير جذري في المجتمع، هذا التغيير يعتمد علي خطوتين رئيسيتين هما: تدمير القديم وانشاء الجديد. الخطوة الأولي سهلة مثل نزول السلم أو الوقوع من سفح جبل، بينما الخطوة الثانية صعبة مثل صعود السلم أو تسلق الجبل. إن تطرد كل موظف أو مسئول من موقعه سهل للغاية، أما أن يصل الي منصبه ويمارس عملا يحقق نتيحة ايجابية فان ذلك بالغ الصعوبة ويحتاج لوقت وجهد وفكر وعلم، وهذا ما يؤدي الي اخفاق كثير من الثورات، وحدوث ما يطلق عليه الثورة المضادة، وبما أن التعريف الأكثر دقة للثورة هو ليس تغيير المجتمع وانما تغييره نحو الأفضل بما يرفع من مستوي معيشة أفراده ويعزز أبنيته ويحقق له التقدم. اذن هناك ثلاثة مقومات للحكم علي العمل الثوري من المنظور الاستراتيجي. حدوث التغيير وأن يكون هذا التغيير نحو الأفضل، وان يحقق مصلحة المجتمع ورفاهية أفراده. وهنا تقع كثير من الثورات وخاصة الحركات المطلبية في الخطأ الجسيم، إذ
وهنا ننظر للبعد الاستراتيجي للثورة، وهو ضرورة بناء مؤسسات علي أسس راسخة وعدم تغييرها لمصلحة الفرد أو طبقة والضرورة الثانية المتصلة بفهم تطور المجتمع، هو أن المجتمع سيظل تسوده الطبقات المتحركة، وليس الجمود الطبقي، أي مفهوم الحركية الاجتماعية، ويصبح الانتقال من طبقة لأخري نتيجة المعرفة والمهارة والتعليم، وليس نتيجة النفاق والمداهنة أو الانتماء الأسري أو الي شلة أو جماعة أو طائفة، والضرورة الثالثة لنجاح أية ثورة، هي تحولها الي قوة مجتمعية بمعني رفعها شعارات وتنفيذ ذلك بما يحقق مصلحة كل فئة من فئات المجتمع، أما إذا تحولت الثورة الي مفهوم الطبقة فقط أو الدين فقط أو الطائفة فقط، فانها تؤدي الي الصراع الطبقي أو الطائفي أو الديني، وتفقد كونها حركة مجتمعية، وهذا يعيدنا لمفهوم الايديولوجية الثورية، وإلي القيادة وإلي البعد المستقبلي.