.. واستقرت عصفورة سعيد.. في باب الوزير
لم أعرف سعيد عبدالخالق إلا بعد أن قدمه لنا فؤاد باشا سراج الدين.. فقد ذهبنا مصطفي شردي وجمال بدوي وأنا لنقابل الباشا، بعد أن رشحنا له عميد الصحافة العربية مصطفي أمين، لكي نصدر جريدة الوفد.. وكان ذلك في أواخر يناير 1984.. وكان اللقاء الأول لنا بالباشا في قصره بجاردن سيتي وكان لقاءا للتعارف.. أما اللقاء الثاني فكان في أول مقر لحزب الوفد في فيلا أحد أقطاب عائلة البدراوي بجوار مبني محافظة الجيزة.
وهو أول لقاء عمل بيننا وبين الباشا.. وقبل أن ينتهي اللقاء طلب الباشا من مصطفي شردي أن يضم إلينا شابا صحفيا وصفه لنا بأنه صحفي وفي للوفد.. وأنه كان ينشر أخبار الوفد منذ أن عاد للحياة السياسية.. وأيضا في قضاياه الكبيرة قبل أن يصبح للحزب صحيفة خاصة.. وقال لنا بالحرف الواحد: سعيد صحفي ممتاز.. قدم خدمات للحزب وأتمني أن يعمل معكم في جريدة الوفد التي ستتولون إصدارها. وقد كان..
وفي اللقاء الثالث الذي جري فيه إعداد ملامح الجريدة الجديدة وقد عقد في غرفة طعام الباشا بالطابق الأرضي بالقصر الشهير، الذي كان قد بني خصيصا ليقيم فيه إمبراطور ألمانيا ولهلم خلال زيارته المقررة لمصر.. ولكن الحرب العالمية الأولي اشتعلت فلم تتم الزيارة فاشتري سراج الدين شاهين باشا - والد فؤاد باشا - هذا القصر الرائع ليصبح مقرا له وللأسرة.. وهو القصر الذي تزوج فيه فؤاد باشا بعد ذلك..
المهم أن هذا اللقاء الذي تم في حضور فؤاد باشا والذي وضعنا فيه أساس جريدة الوفد الأسبوعية كان يضم الأقطاب الأربعة الذين قادوا هذه الجريدة الرائدة في الصحافة المعارضة وهم: مصطفي شردي وجمال بدوي وعباس الطرابيلي.. وسعيد عبدالخالق.. وكانت بداية رائعة..
وبعد أن عرض كل واحد ما يستطيع أن يقوم به اتفقنا علي أن يتولي سعيد عبدالخالق مسئولية »دسك الأخبار«.. وهو من أهم أقسام أي جريدة لأن الخبر هو عماد أي صحيفة تسعي إلي الجمهور والوصول إليه بسرعة.. خصوصا وقد كنا في عصر »بدايات 1984« يتعطش فيه المصري إلي الخبر الصادق.. أو غير الموجه لمصلحة الحكومة.. كنا في عصر تسيطر فيه الصحافة الحكومية - القومية سابقا - علي ما ينشر وما لا ينشر.. وكانت هذه الصحف تحجب ما تراه ضارا بالحكومة أو يسئ إليها.. ولا تنشر فقط إلا ما يحمل وجه الحكومة وحزبها الوطني.
وفي »الوفد« قررنا أن نجري وراء الأخبار التي لا تنشرها صحف الحكومة.. لنرضي أولا حب القارئ في أن يعلم ما يجري.. ونرضي ثانيا »حرفية الصحافة« عندنا أي نحقق للقارئ حقه في معرفة الأخبار الصحيحة.. من هنا كان اهتمامنا بالجانب الإخباري في جريدة الوفد، رغم أن الصحف الحزبية يطغي عليها جانب مقالات الرأي.. وقررنا أن ننحاز إلي الجانب الإخباري ليحقق للقارئ حلمه في أن يعلم حقيقة ما يجري في بلاده.
ولم يكن هناك أفضل من سعيد عبدالخالق ليتولي مسئولية هذا الجانب في الجريدة الجديدة.. الوفد.. وكان دوره هو قيادة فريق قسم الأخبار وتوجيهه لتقديم هذه النوعية من الأخبار للجريدة.
وللتاريخ أسجل أن نسبة كبيرة من هذه الأخبار لم تكن تجرؤ الصحف الحكومية علي نشرها.. وكان مصدرها الكثير من الصحفيين العاملين بهذه الصحف.. إلي أن تعود صحفيو الوفد الجدد ودخلوا في »الفورمة«.
ونعترف بأن سعيد عبدالخالق بخبرته الكبيرة، بحكم تجربته في العمل بجريدة الأحرار المعارضة قبل ذلك تحت رئاسة تحرير صديقنا
ولفتت هذه الطريقة القارئ المصري.. وجذبته.. فقفز توزيع الوفد قفزات قوية وسريعة.. وجعلت الناس يقولون لبعضهم.. »شفت الوفد ناشرة ايه النهاردة« وكانت هذه هي أفضل دعاية للصحافة الوفدية الجديدة.
ثم تلك »العصفورة« الشقية العفريتة.. حقيقة كانت صاحبة فكرتها هي الصحفية اللامعة سعاد أبوالنصر ابنة أخبار اليوم التي كان يخشاها الوزراء وكبار المسئولين.. بل هي صاحبة فكرة رسم عصفورة علي هذا الباب وكانت سعاد أول من قدم هذه النوعية من الأخبار للوفد.. إلا أن سعيد عبدالخالق تلقف الفكرة وتلقف أخبارها الأولي من سعاد.. وممن قدموا أخباراً لنا علي فدارها واستطاع أن يجعل منها بابا رائعا جاذبا للقراء بشكل كبيراً وتطور سعيد بباب العصفورة.. وطور أخبارها من مجرد باب صغير إلي أن أصبحت تنشر علي صفحة كاملة.. ومنذ هذه اللحظات ارتبط باب العصفورة باسم سعيد عبدالخالق وكان القارئ ينتظر باب العصفورة كل خميس أكثر مما ينتظر جريدة الوفد نفسها!!
وعندما أصدرنا جريدة الوفد اليومية في مارس 1987 حاولنا أن نضم العصفورة لتتحول من عصفورة أسبوعية إلي يومية ووجدنا صعوبة في ذلك.. فأبقينا عليها أسبوعية فقط.. لعدة أسباب أولها أننا لجأنا إلي أسلوب العصفورة أي عدم ذكر أسماء من تشملهم هذه الأخبار بسبب خوفنا من بطش الحكومة ومطاردتنا قضائيا وبالتالي - بعد ذلك - بعد زيادة معدل الحرية الصحفية، والوفد ولسعيد عبدالخالق الدور الهام فيها.. وبعد أن أخذنا ننشر الأخبار بأسمائها الحقيقة ولم تعد بحاجة إلي المبني للمجهول فيها توقفت العصفورة.. ولكننا سرعان ما عدنا إليها بسبب هبوط التوزيع مع اختفاء باب العصفورة!!
ونشهد أن كثيرا من الصحف التي صدرت بعدها سرقت الفكرة منا وقلدت باب العصفورة.. طمعا في أن تفوز بحصة أكبر من التوزيع.. ولكن كلها كانت تقليدا.. فلم يكن عندهم سعيد عبدالخالق..
وأول أمس طارت العصفورة.. وطار سعيد عبدالخالق من الوفد إلي مسجد السيدة الطاهرة السيدة نفيسة لنصلي عليه صلاة الجنازة ثم طارت العصفورة إلي مقابر باب الوزير لتستقر هناك.. عصفورة سعيد.. رحمه الله رحمة واسعة..