رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد ...فتاة مس قلبها الهوى

بوابة الوفد الإلكترونية

تهيئة

اعلم يا ولدى أن لكل حادثة حديثاً ولكل مقام مقالاً، كما أن الكلام فى غير أهله عورة، وقد ورد عن الإمام البخارى رضوان الله عليه قول عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه «حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله»، فافهم ما أقصه عليك وكن أهلاً له.

 

فائدة

إن القلوب بيد الله، يقلبها كيفما يشاء ووقتما يشاء، وقد سمى القلب قلبا لتقلبه، وإن حال المحب كحال من أصابه الصمم والعمى فلا يدرك من الوجود ولا يستحس ولا يبصر ولا يسمع إلا لفظ محبوبه وتأمل سمته وطلته. فالحب سقم يستبد بصاحبه لا تنفع معه أدوية الحكماء ولا نصائح صاحب التذكرة داود الأنطاكى.

 

فى أمر الفتاة التى مس قلبها الهوى

ما أقصه عليك يا ولدى هو حال استبد بى، حال بين اليقظة والنوم ويسميه أصحاب الطريق بمنطقة التهويم حيث يكون الرائى فيها لا هو بين نوم ولا يقظة إنما منطقة بين منطقتين، وفى هذا الحال تتلاشى عناصر الزمن وكينونته بفيزياء زماننا. وقد رأيت يا ولدى أن فتاة كانت تبتهل إلى الله فى وقت متأخر من الليل أظنها سويعات قليلة قبل الفجر، أطلعنى الله على أمرها، ووصلنى صوتها، هى فتاة ماتت عنها أمها، وقبلها قد ماتت أختها فتركت لها فتاة صغيرة، كانت الصغيرة يتيمة الأب وأصبحت لطيمة الأم، فأضحت بطلة قصتنا تراعى هذه الفتاة التى ارتحل عنها والداها، وقد ابتهلت إلى فاطر السموات والأرض أن تبقى ما حييت لرعاية ابنة أختها اللطيمة اليتيمة وتنفق عليها من حبات عمرها، فكانت تغزل الصوف وتبيعه فى أنحاء المدينة ثم تعاود لتنفق كدها وعمل يديها على الصغيرة، فلم تدخر من قوتها ولا مالها من شىء، واعلم ياولدى أن قانون الزمن هو الصيرورة والسرعة وتقلب الحال فلا باق ولا دائم إلا الله جل جلاله. فكبرت الفتاة اليتيمة اللطيمة فى رعاية خالتها صاحبة الواقعة التى أرويها لك.

وكانت لهذه الفتاة أم صالحة، وقد أخبرتك أنها رحلت عن دنياها، فكان صلاح الأم هو منبع الصيانة والحماية لأمر الفتاة فى دنياها، ولا أعلم حقيقة الوصل الإلهى بين هذه الأم وصاحب السموات والأرضين، ما أطلعنى الله عليه انها سيدة صالحة، غير أنى لا أعرف سر الوصل.

نعود لأمر الفتاة التى أنفقت عمرها على ابنة أختها تراعيها وتحسن تربيتها، وفى هذه الليلة التى أسمعنى الله فيها نداءها، كانت تشعر بفراغ فى القلب وقد استشعرت جريان الزمن والعمر، وأنها باتت وحيدة وتطلب من السماء قبض روحها لتلحق بأمها بعد أن اطمأنت على الفتاة اليتيمة ابنة أختها التى راعتها وأنفقت عليها من كد عمرها ويدها، ولما شدنى فضول ابن آدم لمعرفة سر الفتاة، لا أخفى عليك يا ولدى أننى ذهبت ليلة قبيل الفجر استرق السمع لدعائها وتهجدها، فأشهد الله أنها كانت تتقلى بدعائها وتتألم فى حديثها فرق قلبى ودعوت الله أن يرأف بصاحبة هذا القلب.

وكان فى المدينة رجل يحب امرأته ولا يرى عنها عوضاً فى محياه، رزقه الله منها بغلام أسماه يس، تيمنا بالاسم وسر الأحرف القدسية، كان الرجل يعمل فى صنع الفخار، فكان بارعا فى صنعته، متذوقا لكل ما هو جميل مفتونا بالسماع، له قلب طيب، ويحب أولياء الله، وقد أطلعنى الله على أمره فرأيته يطعم الحيوان فى جرار من فخار صنعه خصيصا له، وهو رجل عرف بمنطقة الفخارة بمدينة طنتدا بنصرته للمظالم، وقدر روى شيخ الفخارين وكبير الصنعة أن الرجل كان فصيح اللسان والبيان، فلما كانت مظلمة تقع على أحد الفخارين كان يتقدم بمظلمة صاحبها إلى شيخ الحرفيين، فعرف عن الرجل شهامته ونصرته للحق.

وهنا يا ولدى وقع ما لم أخبر به أحد من العالمين، وأخبرك به الآن، فلما مررت أمام صاحبنا الفخار، طلبت منه أن يطعمنى، وكانت فى نفسى حاجة أن أعرف الرجل عن قرب، فأجلسنى الرجل

وأحسن مثواى، وقدم لى الطعام وعرفت أنه أنفق كل ما فى جيبه، حيث أتت امرأته إليه تطلب مالا للسوق فاعتذر لها، وليغفر لى الله انى رأيت امرأته فكانت أشبه بملاك يسير على الأرض، لها مسحة من نور تشع بوجهها، فلم أملك إلا أن سبحت الله صانع الجمال فى وجه ابنة حواء، هو جمال من نوع تألفه القلوب فلا تملك معه إلا التسبيح لله حمداً وتقديراً على صنعته وصدق قوله تعالى «صُنْعَ اللهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىء» (النمل: 88).

ولما استشعرت من الرجل طيب قلبه ونقاء مضغته، حادثته عن أمر زوجته وعرفت أنه يحبها حد الوله والافتتان. وهنا يا ولدى طلبت من الرجل الانصراف فلم يتركنى وأخذ بيدى، فشممت روحه، وأدركت أنه خبثها قليل وطيبها يغطى خبثها، فقلت للرجل: «لو أن هناك أمانة طلبنا منك أن تحفظها إلى حين فهل تستطيع معى صبرا وتحملها» قال الرجل فى أدب: «إن الأمانات يا عم ليست بالأمر الهين وهو أمر لم تقدر عليه الجبال ولا السموات وأخشى أن أظلم نفسى» فعجبت من رد الرجل، وتركته وفى نفسى رجاء ابتهلت به إلى الله، أن يجعل من هذا الرجل أميناً على فتاة قصتنا التى أرويها لك، تلك الفتاة التى أنفقت من حبات عمرها على ابنة أختها اليتيمة اللطيمة.

ولأن للكون رباً يديره، حكيماً فى قضائه وبصيراً بقدره، علمنى هذا الأمر أن الأقضية نقف أمامها موقف الهيبة والتبجيل احتراما لمنزلها وصائغها، وأن مسارات البشر وأقدارهم ليست بكتاب نقصه أو نؤلفه أو نتحكم فى سريانه ثم نطبقه لنضعه فى حوانيت الوراقين. فللكون رب يسير عباده. لكنى فى هذا اليوم دعوت الله ساجدا مبتهلا أن يجعل الفتاة أمانة يحملها صاحبنا صانع الفخار، ولا أعلم لما طلبت هذا أو أقدمت عليه. وتجاهلت أمر زوجته التى أحببها حد الوله.

وبدا أن السماء قد فتحت أبوابها لتضرعى، فرأيت فى نومى ذات مرة أن سيدة بلغت من الكبر عتيا، نادت على ثم وجدتها تشكرنى وتدعو الله لى، فلما سألتها عن أمرها، أجابتنى أنها والدة الفتاة التى تراعى الصغيرة يتيمة الأب ولطيمة الأم وختمت لقاءها لى بجملة «لعل الفخار يصون الأمانة». ومر ثلاث ليال بحساب زماننا، وكانت بطلة قصتنا تتجول بالسوق فساقتها قدماها لمنطقة الفخارين، وشدها قطة تشرب من وعاء فخار وضعه صاحبنا أمام حانوته «دكانه» فتوقفت تنظر للقطة وبقلبها شغف أن تلامسها، وحدث يا ولدى أن التقت العينان، عين صديقنا الفخار الذى أطعمنى وأحسن مثواى وعين فتاتنا التى كانت تطلب من الله الرحيل من الدنيا.......