عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

القاضي .. بصمات انسان

ربما نكتب ونحن نقصد أن العين لتدمع، وأن القلب ليحزن، وأننا من فراقك لمحزونون، ولكننى لم أكن أريد أن أشهد نعيك أستاذى، ولا أن أكتب رثاءك، أو أن يصبح صوتك ذكرى، ورسمك ماضياً، وصورتك  تابلوه على الحائط فى جانبه الأيمن شريط أسود، ولا أن أشعر باليتم المهنى، ولكن ليس لنا فى الأقدار شأن ولا حيلة، ولا يعزينا فيك سوي أننا غداً نجتمع عند مليك مقتدربإذن الله.

لم يحالفنى الحظ أن أتعرف إلى أستاذى القاضي قبل وقت طويل، إنما صافحنى صوته على الهاتف قبل عام فى تصريح صحفي على لسانه أحببت أن أتأكد منه فهاتفته، وكنت وقتها أعمل باحدى المواقع.

ترك " القاضي " بصمة بصوته فقط لدى، وعندما شاءت الأقدار أن أغادر الموقع الذى كنت أعمل به، تقدمت بالسيرة الذاتية الخاصة بي لعدد من المواقع والصحف ملتمسة أن أضع أقدامى على بوابة صحفية جديدة،  وفى المرة الثانية التى هاتفته فيها  وجدته يخبرنى عن قبوله لعملى بالبوابة الإلكترونية للوفد.

شهر، شهران، ثلاثة أشهر، كنت أعتبر نفسي خلالها -  رغم سنوات العمل الطويلة فى بلاط صاحبة الجلالةمنذ العام 1993-   تحت الإختبار، ولم لا وقد أسعدنى حظى بأن أقف إلى جوار قامته وأن استلهم من قيمته الكثير،  استمع لتوجيهاته على قلتها، فلم يكن يحب أداء دور المعلم الموجه بشكل مباشر، وأتعلم من ملاحظاته على الأداء على دماثتها، وأود أن أهمس فى أذنه،  أن "هوّن على نفسك يا عزيزى" كلما أهمّه وأزعجه خبراً عن الفساد، أو الظلم، اشفاقاً على قلبه العليل .

أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله، فقد كان القاضي اسماً على مسمى، لا يسمع لنفاق، ولا يحب المنافقين، ولا تنطلى عليه حيلهم، مازحته مرة  وكان منفعلاً بسبب مستندات وصلتنا تدين أحد الأشخاص بالوسط الصحفي، وهو ما كشف زيفه،  فقلت له: " هو الحقيقة ربنا بيحبه لأنه وقع المستندات دى فى إيد واحد اسمه عادل و قاضي؟!"، فابتسم، وقال : " نصيبي، اللى تاعبنى فى الدنيا دى".

وخلال الشهور السبعة التى زاملت فيها أستاذى القاضي فى البوابة الإلكترونية للوفد، كان يخصنى بأحاديث قصيرة عن ذكرياته المؤلمة مع منافقين المهنة من الوسط الصحفي، وأذكر أنه قال لى مرة:" أنا بس لو أفضي لهم، بس فيين؟"، تبادلت معه الفضفضة بهذا الشأن مرات معدودة، فقد كان رحمه الله مقبل على العمل دون كلام كثير.

لقد عملت مع رؤساء كثيرون لم أجد منهم واحداً يجمع إلى جانب الإحترافية، تقوى الله، بينما كان القاضي يفعل، بل ولا يدخر ذلك لنفسه وإنما يعلمه، وينصح به الآخرين وكنت أنا واحدة منهم، ولا زالت كلمته ترن بأذنى: "لما تيجي تكتبي الخبر متنسيش ربنا".

وأذكر أنه فاجأنى ذات مرة معاتباً بشأن يخص تأخرى فى تقديم تقرير كان قد طلب تحريره، إلا أنه فجأة تبدل حاله العاتب وبشدة إلى آخر مجامل قائلاً:" أنا مش عارف جرالك  إيه، نفسي أشوف حاجة

كويسة زى كتاباتك القديمة، أنا شخصياً باستمتع لما بقرأ لك، بس أنا مش هقعد أجيب ده من جوجل، عاوزين جديد"، يومها شعرت بسعادة غامرة لهذا الوسام الذى شرفنى به.

معرفتى بالقاضي جددت بداخلى الأمل فى أن يكون هناك صحفي محترم، محترف، بدون أن يتخلى عن قيمه ومبادؤه، وقد كان القاضي ممسكاً ومتمسكاً بهذا الجمر حتى آخر لحظة صحفية شهدتها معه.

عملى معه على قصر فترته، جدد لدىّ آمال فى امكانية أن أجد انسان وليس ملاك يعمل فى الصحافة فى بلادنا، ويدرك أن " الكلمة " ليست للـ " الفتنة "، ولأجل " التسخين " وليكن ما يكون، وهذه القيمة لديه والتى قلما نجدها فى الوسط الصحفي كانت جاذباً قوياً تجاه شخصه كصحفي، وكرئيس، وانسان.

غادرنا " القاضي " شاباً أربعينياً،  فى قمة النضج والتألق، وقد كان يداعبنا دائماً قائلاً: " احنا عجزنا، وهنخلص بسرعة، أنا شخصياً قربت أخلص"، قالها لنا فى احدى الإجتماعات مؤخراً وكان باسماً، ضاحكاً، كنا نعتقد أن يمزح، ولم نكن ندرى أنه كان ينعي نفسه!

وأذكر أننى فى الشتاء الماضي أصيبت بنزلات برد متتالية، فكان بروح أخوية عالية يوصينى ممازحاً:" خلى بالك من صحتك، هتربي العيال امتى أمال، دول تلاتة يا أستاذة، ولا هتربيهم فى الصيف بس".

كثيرون تتعرف إليهم من الكتاب والصحفيين من خلال كتاباتهم، أو شخصياتهم، أو أنشطتهم المتعددة فى المجتمع، إلا أنك تتعرف إلى القاضي عن طريق ذلك كله، ثم إنه يترك لديك بعد ذلك كله " بصمة " هى بصمة " انسان"، ربما لأنه كان يعرف أن هذا هو الأفضل، وهذا هو الأبقي.

فارقتنا يا قاضي ونحن فى أحوج الأوقات إليك،  ولازالت بوابتك الوليدة تخطو خطواتها الوئيدة فسامحك الله، وكنت انساناً من قبل ومن بعد أن ترتدى ثوب هذه المهنة فرحمك الله رحمة واسعة، وآجرنا فى مصيبتنا، فإن كان قلبه يا رب قد استراح فقد أوجع من بعده قلوب.