رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

القمص سرجيوس «خطيب المنبرين»


في حي القللي، وتحديدا في 7 شارع العزيزي يقف منزل أثري عتيق تشعر من استقامة جدرانه أنه فخور بأنه ضم بين جدرانه التي تداعبها بعض الشقوق القمص سرجيوس رمز الوحدة الوطنية علي مر العصور. في هذا المنزل المكون من ثلاثة طوابق تعيش الوحدة الوطنية منذ ما يقرب من مائة عام مجسمة كاملة دون أغان زاعقة ومؤتمرات فارغة وجلسات لتقبيل اللحي، وكما كان مظلوما في حياته لم يتركه الظلم بعد موته أيضا فيحصل علي التكريم المناسب لقيمته وقامته رغم أنه لا يقل تأثيرا ووطنية عن سعد زغلول وعبد الله النديم وبقية الزعماء.

القمص سرجيوس أسماه الزعيم سعد زغلول خطيب الثورة، ولقبه البعض بـ «خطيب المنبرين» بعدما خطب علي منبر الأزهر ومنبر الكنيسة. ثائر محب لوطنه ومصريته، فتشنا في أوراق التاريخ لنجده أمامنا معلنا عن نفسه بعبارات شهيرة يرددها هذا الجيل دون أن يعرف صاحبها مثل: «إذا كان الإنجليز يتمسكون بوجودهم في مصر بحجة حماية الأقباط، فليمت الأقباط ويحيا المسلمون أحراراً» و «لو احتاج الاستقلال إلي مليون قبطي فلا بأس من التضحية» كما يظهر بهيئته الحقيقية في مشهد النهاية لفيلم «بين القصرين» عندما كان يعتلي منبر المسجد.

الغريب والمحزن أن سكان حي القللي لا يعرفون شيئا عن هذا الرجل، ولم أجد أحدا يدلني علي منزله إلا كاهن كنيسة مار جرجس الذي أخبرني أن أحد أحفاده مازال موجودًا, وبالفعل تم توصيلي بأصغر أحفاده وجدي صموئيل «40 سنة» وهو حفيده من إحدي بناته، ترك المنزل الذي كان يعيش فيه مع خاله أوريجانوس - آخر أبناء سرجيوس - بعد وفاته عام 2003 ليتسلمه صاحب المنزل.

في الطابق الثالث من المنزل العتيق عاش القمص سرجيوس لنحو 20 عامًا, صعدت درج المنزل بصحبة حفيده ووصلنا إلي الطابق الثالث، لكن لم يحالفنا الحظ أن ندخل شقته, وبدأ حفيده في فتح دفتر ذكرياته وسرد حكاياته التي قرأها من الكتب وسمعها عن خاله الواحدة تلو الأخري، لم يترك سرجيوس أثرا له سوي مكتب قديم قام حفيده بطلائه للحفاظ عليه, بجانب بعض المخطوطات المكتوبة بخط يده وبعض الخطابات التاريخية له مع مصطفي النحاس وعبدالناصر ومحمود فهمي النقراشي وغيرهم، فضلا عن بعض الصور التذكارية له مع الزعماء.

قيل عنه إنه كان كالبركان المتفجر، ثائر علي طول الخط, وتحدث عنه الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ بجامعه عين شمس في كتاب «عنوان الدين والسياسة في مصر المعاصرة» وفيه قال عفيفي: ولد القمص سرجيوس بجرجا سنة 1882، ورُسِم قسًا علي بلده ملوي وبعد ذلك وكيلاً لمطرانية أسيوط في 1907، كان والده قسيسا شأنه وكذلك جده، فتربي علي الوعظ والخطب الدينية المفوهة ومع مرور الوقت قرر أن ينتقل إلي القاهرة للتدريس في المدرسة الاكراليكية.

قاد أول اعتصام في حياته عام 1902 في حركه تمرد من طلاب الاكراليكية من اجل إصلاح شئونها وكان رد البطريركية عليها التهديد باستدعاء البوليس لإنهاء الاعتصام وتدخل بطرس باشا غالي لفض الأمر.

تزوج عام 1904 وأنجب من هذه الزيجة 5 أولاد وخمس بنات وبدأ خدمته في الزقازيق وسنورس وملوي إلي أن ترقي الي درجه القمص وهي درجه أعلي من القس عام 1907, وانتقل 1912 إلي السودان ليشعل بها روحه الثورية وأولي خطاباته الممتعة حول «عيشوا بسلام» بالاشتراك مع بعض الرموز المسلمة هناك إثر حادث اغتيال بطرس غالي، وانقسام المصريين علي أنفسهم ومن هنا أصدر مجلة المنارة المرقسية فصب عليه الإنجليز غضبهم، وأمروا بعودته إلي مصر في أربع وعشرين ساعة، وكانت آخر كلماته للمدير الإنجليزي هي: «إنني سواء كنت في السودان أو في مصر فلن أكف عن النضال وإثارة الشعب ضدكم إلي أن تتحرر بلادي من وجودكم».

«ظلت حياتي موزعة بين الدراسة والوعظ والعبادة حتي أن أحد أيام ثورة 1919 كنت قابعا في بيتي سمعت ضجيجا وصخبا وجدتها مظاهرة شباب تهتف يحيا سعد يحيا الاستقلال وبتلقائية سألت ما الأمر فأخبروني أنهم اعتقلوا سعد زغلول وكأنما براكين الدنيا انفجرت في رأسي فانضممت إليهم وهتفت» بهذه الكلمات تحدث سرجيوس عن البادرة الأولي في مذكراته عن مشاركته في ثورة 1919 فحركته عاطفته لينطلق مشاركا في الثورة، عاش في الأزهر لمدة ثلاثة شهور كاملة يخطب في الليل والنهار مرتقيًا المنبر، معلنًا أن الوطن لا يعرف مسلمًا ولا قبطيًا، بل مجاهدين فقط دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء، وخطب في عدد من المساجد والكنائس وهو الكاهن القبطي الوحيد الذي لعب هذا الدور وبالرغم من محاولة البعض فعل الأمر نفسه إلا أن حماس سرجيوس

وكاريزمته العالية فرضت نفسها.

واشتهر بروح الدعابة والسخرية ففي سرادق أعد لتكريم سعد زغلول بعد عودته من المنفي هتف الحاضرون باسم سرجيوس ليخطب فيهم، فقال: «والله إنك لمجنون يا سعد»، فاندهش الجميع لكنه استكمل «والله إنك لمجنون يا سعد تقدم علي دولة عظمي خرجت منتصرة من حرب عظمي وتملك كل شيء ولا تملك أنت شيئا ثم تنتصر عليهم والله إنك لمجنون يا سعد»/ فوقف سعد ضاحكا وقال: «مجنون والله أنت يا سرجيوس».

ومن بين مواقفه المعروفة بالشجاعة ذات مرة وقف في ميدان الأوبرا يخطب في الجماهير، وفي أثناء خطابه تقدم نحوه جندي إنجليزي شاهرًا مسدسه في وجهه، فهتف الجميع: «حاسب يا أبونا، حايموتك»، وفي هدوء أجاب «ومتي كنا نحن المصريين نخاف الموت؟ دعوه يُريق دمائي لتروي أرض وطني التي ارتوت بدماء آلاف الشهداء». دعوه يقتلني ليشهد العالم كيف يعتدي الإنجليز علي رجال الدين». وأمام ثباته واستمراره في خطابه تراجع الجندي.

صموده وشراسة خطاباته في وجه الإنجليز جعلت منه شوكه في حلقهم فقرروا التخلص منه ونفيه إلي رفح بصحبة الشيخ مصطفي القاياتي اللذان كانا يخطبا معا فوق منبر جامع ابن طولون، وقضي سرجيوس والقاياتي 80 يومًا في هذا المنفي.

ومع انتهاء ثوره 19 والبدء في جني ثمار الثوره وظهور الأحزاب والإعلان عن الدستور لعام 1923 اختار سرجيوس لنفسه البعد عن الساحة السياسية في ذلك التوقيت وعاد لدوره كرجل دين، إلا أن بحلول عام 1949 أعلن سرجيوس ترشيحه في مجلس النواب عن دائرة الشماشرجي بشبرا، وقال إن دوافع الترشح تعود لرغبة الجماهير وهناك آراء متطرفة من شأنها القضاء علي نتائج 1919 وهدفه يكمن في محاربتها, واتهمه البعض بأنه طائفي وأعلن صراحة أنه ترشح لمواجهة تصاعد دور الإخوان المسلمين وألح في دعايته علي أنه أول كاهن يرشح نفسه لعضوية مجلس النواب وفي نفس الدائرة رشح حزب الوفد إبراهيم فرج ممثلا له في انتخابات البرلمان ومع احتدام الصراع بينه وبين الوفد أعلن تنازله عن الترشح.

وأبرز ما قيل عنه بعد وفاته ما قاله أحد الكتاب بأنه فقيد الجامع الإسلامي والشعب المصري، كما قال عنه البابا شنودة الثالث إنه «بركة عظيمه للكنيسة وأحد مشاهير الوعاظ في جيلنا, ومشاهير الكهنة وكان له عقلية فذة وذكاء نادر. روح عجيبة مرحة. إنتاج فكري عميق. قدرة خارقة في الإقناع. ما زاد به إعجاب الناس وحماسهم لسماعه «كما قال عن نفسه بمذكراته: «أشركت القلم مع اللسان فوعظت وكتبت».

في الطابق الأرضي من المجلس يعيش «عم عبدالمنعم» الذي عاصر سرجيوس لنحو ثلاث سنوات، وقال لـ «الوفد الأسبوعي»: كان رجلاً عظيمًا وله روح مختلفة عن باقي البشر، وذات مرة كنت أعمل في ورشتي، وفجأة نزل أبونا سرجيوس يترجاني أن أكف عن الدق لمدة ساعتين فقط حتي يستطيع الخلود إلي النوم وهو الموقف الوحيد الذي مازلت أذكره له لأنه كان في قمة الذوق وهو يطلب مني, رغم أنه كان علي علاقة بكبار القادة التاريخيين وأذكر أن مكرم عبيد باشا كان يزوره باستمرار.