رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تاريخ المصريين حافل بدعم المشروعات الوطنية

بوابة الوفد الإلكترونية

حين أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى عن اعتزامه قصر عمليات التمويل فى مشروع القناة الجديدة على المصريين فقط إيمانا بعدم تأخرهم فى دعم مثل هذا المشروع الطموح فإنه فى ذلك لم يكن ينطلق من فراغ حيث تكشف قراءة فى تاريخ المصريين عن إقدام وحماس منقطع النظير فى دعم المشروعات الوطنية حينما يدركون أن ذلك لصالح المستقبل.

وإذا كان واقع ما حدث على مدى الأيام الماضية يكشف عن صحة ما ذهب إليه الرئيس السيسى فإن الغوص فى التاريخ القريب يمكن أن يعطينا صورة تبشر بالأمل فيما يمكن أن تؤول إليه مسيرة عملية تمويل مشروع القناة الجديدة, وليكشف المصريون بذلك عن حبهم لوطنهم فى اللحظات الفارقة من تاريخه.. فهذا الموقف ليس أولى قصائدهم فى غزل المحروسة.. فرغم الواقع المر ورغم الأزمات فإيمان المصريين ببلدهم لا يتراجع.. ومهما قيل للمصريين من أن مصر فقيرة أو أن مصر أسيرة فإنهم يرونها أميرة.


كانت الجامعة المصرية، هى أول المشروعات الكبرى التى تبرع المصريون لانشائها فى بداية القرن العشرين، كما يؤكد على ذلك كاتبنا الكبير «صلاح عيسى»، وكان أول من طالب بذلك هو و«جورجى زيدان» - مؤسس مجلة «الهلال» - الذى طالب عام 1900 بإنشاء «مدرسة كلية» لتثقيف الشباب المصريين بدلاً من إرسالهم إلى أوروبا، وبتشكيل لجنة لجمع الأموال لها عن طريق الاكتتاب العام وانتقلت الفكرة إلى الزعيم «مصطفى كامل» الذى تحمس لها وتبنى الدعوة اليها وبحكم مكانته وجماهيريته الواسعة بين الشعب، اكتسبت الفكرة كثيرين من المؤيدين، لكن الظروف حالت دون تنفيذها بسبب الخلاف الذى نشب بين الخديو «عباس حلمى الثاني» وبين «مصطفى كامل» وبسبب معارضة «اللورد كرومر» - المعتمد البريطانى فى مصر - لها واعلانه بأن بلداً فقيراً ومديناً وتنتشر الأمية فيه لا يحتاج فى الظروف التى كانت قائمة آنذاك، إلى «جامعة» بل يحتاج إلى التوسع فى تأسيس الكتاتيب التى يتعلم فيها الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، وهى فترة اقتنع بها كثيرون من المصريين خاصة أعيان الريف الذين اخذوا يتنافسون فى التبرع لانشاء الكتاتيب فى قراهم، وثارت المناظرة على صفحات الصحف حول أيهما أفضل لمصر، الجامعات أم الكتاتيب؟.. مع أنه لم يكن هناك تناقض بين الأمرين.
وجاءت الخطوة العملية الأولى، عندما أرسل مصطفى كامل الغمراوي - أحد أعيان محافظة بنى سويف بشمال الصعيد - فى عام 1906 خطاباً للصحف، يجدد فيها الدعوة لانشاء الجامعة، ويفتتح الاكتتاب العام لإنشائها بتبرع قدره خمسمائة جنيه، وبعد عامين من هذا التاريخ افتتحت «الجامعة المصرية» وبدأ الطلبة الدراسة بها، وظلت تبرعات المصريين تتصاعد لتمول تعليم هؤلاء الطلاب، وإرسال مبعوثين منهم إلى الجامعات الأوروبية، وتبرعت الأميرة «فاطمة إسماعيل» - عمة الخديو اسماعيل وعمة الخديو «عباس حلمى الثاني» بمجوهراتها وبمساحة من الأرض هى التى أقيمت عليها المبانى التى لاتزال تشغلها جامعة القاهرة حتى اليوم.
وكان «بنك مصر» هو المؤسسة الثانية التى نهض المصريون لتأسيسها بمبادرات أهلية وليس حكومية، وحتى بداية العقد الثالث من القرن العشرين، كانت البنوك التى تعمل فى مصر، إما فروع لبنوك أوروبية، أو بنوك خاصة يملكها الأجانب المحليون الذين يقيمون بها، ولم تكن هذه البنوك تساهم فى أى نهضة اقتصادية فى مصر، إذ اقتصر دورها فى الغالب على إقراض كبار ملاك الأراضى الزراعية بضمان الأرض أو المحصول، وكان هذا ما شغل «محمد طلعت حرب» الذى أصدر فى عام 1917 كتاباً بعنوان «علاج مصر الاقتصادى وانشاء بنك وطنى للمصريين»، دعا فيه إلى تأسيس بنك يملكه المصريون ويضعون فيه مدخراتهم لكى يستثمرها البنك أو يقرضها لمستثمرين من المصريين، يقومون بإنشاء مشروعات صناعية وزراعية وتجارية تساهم فى نهضة البلاد اقتصادياً وتضمن استقلالها.
وبعد شهور من بدء ثورة 1919 التى رفع المصريون خلالها شعار «الاستقلال التام أو الموت الزؤام» بدأ «طلعت حرب» فى تنفيذ فكرته، دون معونة من أحد لا حكومة ولا حزب ولا حتى مجموعة من رجال المال، فأخذ يطوف بالمدن والأقاليم ليقنع المصريين بشراء أسهم بنك مصر، وأصر طلعت حرب على أن المصريين - الذين قصر العمل فى البنك عليهم - يصلحون للأعمال المصرفية وكان يتابع عمل الذين التحقوا منهم بالعمل فى البنك بنفسه ويراقبهم لكى يتدرجوا فى تولى المناصب القيادية، وبعد سنوات قليلة ازدهر بنك مصر وأقبل المصريون على إيداع مدخراتهم به، وشرع البنك يستثمرها فى انشاء صناعات جديدة لم يكن لهم بها عهد، فأنشأ شركة للغزل والنسيج وحليج الأقطان ومتاجر لبيع المصنوعات المصرية وشركات للبواخر ومصائد للأسماك، ودخل فى مجالات مبتكرة فأنشأ شركة مصر للتمثيل والسينما التى بنت ستوديو مصر وأنتجت عدداً من الأفلام السينمائية المهمة، وأسس شركة مصر للطيران التى أصبحت تملك خطوطاً جوية تغطى معظم أنحاء العالم وأصبح للبنك فروع فى كل عواصم الأقاليم وفى عدد من المدن المصرية الصغيرة، فضلاً عن فروع فى الدول العربية والأجنبية.
الحكايات عن عشق المصريين لوطنهم «مصر» لا تنتهى ولعل الأجيال الشابة والتى منها من انخرط فى تيارات فكرية دينية متطرفة لا يعرف كيف استطاع أجداده من المصريين الذين لم يدخلوا مثله مدارس أو يتعلموا حتى فك الخط العربى أن يكونوا أكثر تحضراً وثقافة منه بل وبحسهم الحضارى دفعوا من قروشهم القليلة لكى يستطيع فنان شاب فى ذلك الوقت يدعى «محمود مختار» أن ينحت تمثال «نهضة مصر» كرمز للفلاحة المصرية الصابرة وبجوارها أبو الهول رمز لشعب مصر الصامد للمحن والشدائد وكانت تكاليف إقامته تتكلف آلاف الجنيهات ولكن المصريين استطاعوا أن يجمعوها فى تحد واضح للاحتلال البريطانى آنذاك، وتمثال «نهضة مصر» الذى يقف أمام جامعة القاهرة شامخاً نقل اليه فى عام 1956 عندما قررت ثورة 23 يوليو نقله من ميدان باب الحديد لكى يوضع بدلاً من تمثال رمسيس الثانى.
وتمثال نهضة مصر، كما قال الكاتب الكبير مصطفى أمين فى كتابه «من واحد لعشرة» إن ثورة 1919 ألهمت المثال محمود مختار الذى كان يدرس النحت فى باريس أن يصنع تمثالاً عبارة عن فلاحة مصرية تقف بجوار أبو الهول صنعه من الطين ووضعه فى متحف جريفين وعندما زار ويصا واصف عضو الوفد هذا المتحف أثناء تواجد سعد باشا زغلول وأعضاء الوفد فى باريس.. شاهد التمثال وأعجب به وذهب إلى سعد باشا ودعاه لمشاهدة التمثال الذى أظهر الفلاحة المصرية «تعبيراً عن مصر» وتمثال أبو الهول الذى يرمز إلى الشعب المصرى الصامد».
وقال سعد إن هذا التمثال يجب أن يوضع فى أكبر ميدان بالقاهرة ورد مختار: الحكومة التى عينها الانجليز لن توافق على أن تقيم تمثالاً يُعبر عن ثورة الشعب ضد الانجليز وقال سعد باشا هذا التمثال يمثل ثورتنا، إنه يربط مجد هذا الشعب اليوم بمجده القديم.
ورد مختار: لكى يقام هذا التمثال يجب أن يحول من طين إلى حجر وتخصص له الحكومة ميداناً ليقام فيه.. أما تحويله إلى حجر فانه سيتكلف عدة آلاف من الجنيهات.. وبالتأكيد الحكومة لن تدفع مليماً واحداً من أجل تمثال نهضة مصر.
وسكت سعد باشا قليلاً ثم قال الشعب سيدفع ثمن هذا التمثال وسأوجه من باريس نداء إلى الشعب أطلب منه أن يتبرع لاقامته..
وعندما عرض سعد باشا الفكرة على أعضاء

الوفد.. قالوا إن الدين الإسلامى ضد اقامة الاصنام وما تمثال مختار إلا صنم.. وقد ينتهز السلطان الفرصة فيوعز رجال الدين ليعلنوا ان دعوة المسلمين لاقامة تمثال.. كفر وكل من يدفع لاقامته هو كافر وزنديق ورد سعد فى هذه الحالة سنقول انه تمثال يعبر عن صورة شعب استيقظ.. ولماذا تمت الموافقة على اقامة تمثال محمد على باشا فى الاسكندرية وتمثال ابراهيم باشا فى القاهرة وكلاهما أصنام..!
المهم أن الشعب استجاب لدعوة سعد باشا وتم صنع التمثال فى عام 1920 ولكنه بقى مسجونا فى أحد المخازن، وكان الانجليز معترضين على اقامته.. ثم قرر مجلس النواب تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق فى سر تعطيل العمل فى اقامة التمثال، ولم يزح الستار عن هذا التمثال الا بعد وفاة سعد باشا، وهكذا كان تمثال نهضة مصر الذى تم تصميمه وتصنيعه كرمز لصمود الشعب المصرى وبطولاته فى ثورة 1919 لا يتوقف دفتر الوطن عن تسجيل حب المصريين لتراب وطنهم وأنهم حينما يدركون بحسهم الفطرى أن من يدعونهم لبذل ما لهم يكون الهدف الأول والأخير منه هو الوطن «مصر» لا يترددون بل يحققون فى سبيل ذلك المعجزات ومن ضمن هذه الاحلام الوطنية التى حققها المصريون مشروع الكاتب والمؤرخ والمناضل السياسى أحمد حسين، أحد الأقطاب المؤسسين لحزب «مصر الفتاة» ومشروعه الأشهر «مشروع القرش».. لنبدأ القصة من أولها، أو تحديداً من عند أحمد حسين المولود فى الثامن من مارس بحى السيدة زينب، بالقاهرة، وتلقى تعليمه بين مدارس «الجمعية الخيرية الاسلامية» ومدرسة محمد على الأميرية وتمتع بنزوع دينى منذ صغره، حتى انه أثناء سنوات دراسته الأولى أسس مع رفيق دراسته وزميل عمره فتحى رضوان جمعية مدرسية باسم «جمعية نصر الدين الاسلامي» التى أوقف ناظر المدرسة نشاطها بعد حين.
وانتقل احمد حسين إلى التعليم الثانوى بالمدرسة الخديوية واهتم بالتمثيل وأدى أدواراً على مسرح المدرسة وتميز فى فن الخطابة، ونما حسه الوطنى وأنهى الدراسة الثانوية فى 1928 والتحق بالحقوق، وتنامت لديه الاهتمامات السياسية وانخرط فى أنشطتها.
وفى عام 1931، بدأ مشروعه الشهير مع رفيق حياته فتحى رضوان وكان الاقتصاد المصرى آنذاك يعانى عثرة وأزمة حقيقية فكان الهدف الأساسى من المشروع هو العمل على دعم الاقتصاد المصرى عبر مبادرة أهلية جماعية يشارك فيها كل أفراد الشعب مشاركة محدودة جداً تساوى قرشاً، اما سبب أزمة الاقتصاد المصرى فهو تراجع سعر القطن المصرى بعدما كان الطلب عليه شديداً من دول الغرب ومنها أمريكا وبريطانيا، وكان الشعار الذى رفعه أحمد حسين والمبرر أيضاً هو «نشر روح الصناعة الوطنية فى كل مكان».
وكان هذا الشعار يمثل بدايات القناعات الاشتراكية لدى الرجل، التى تحمل ضمن مبادئها قيام صناعات وطنية وقومية باسهام الشعب ذاته على أن تكون ملكاً لهذا الشعب أيضاً.
ويقول حسين: «لما كانت الصناعة تحتاج إلى رؤوس أموال ولم أشأ أن أجمع رؤوس الأموال من بضعة أفراد، بل رأيت مما يحقق غايتها بكاملها أن يسهم الشعب مجتمعاً فى انشاء الصناعات القومية ليظل حريصاً على تشجيعها فيما بعد».
أما الخلفية الوطنية أو المبرر الوطنى الآخر لهذا المشروع، فيرجع إلى أن مصر كانت تستورد الطرابيش حتى أنشأ محمد على باشا مصنعاً للطرابيش، ولكن بعد تحالف دول الغرب ضد مشروعها عام 1840 توقفت الكثير من المصانع التى أنشأها ومن بينها ذلك المصنع الذى كان أنشأه فى مدينة فوة بمحافظة كفر الشيخ الآن، وعادت مصر إلى الاستيراد مرة أخرى وفى هذا الجو اشتعلت «معركة الطربوش» الذى يعبر عن الهوية المصرية فى مقابل النزوع للتخلص من الطربوش والتشبه بالغرب وارتداء القبعة.
يذكر أن المفكر سلامة موسى كان من أنصار التخلى عن الطربوش للتخلص من الحكم التركى، وكان أنصار الطربوش يلعنون القبعة ويعتبرونها تخلياً عن الهوية واتسع نطاق المعركة، وأصبح الشارع المصرى طرفاً فيها.
وهنا ظهر «مشروع القرش» لأحمد حسين الذى كان لايزال طالباً فى مدرسة الحقوق «الكلية حالياً» ورأى أنه من العار على المصريين أن يستوردوا زيهم الوطنى من الخارج.
ومضى المشروع قدماً وشارك آلاف المتطوعين فيه، بل حظى بدعم الكثير من الأحزاب وحظى بدعم الحكومة، ودعم أحمد شوقى بأشعاره حيث قال: اجمع القرش إلى القرش يكن.. لك من جمعهما مال لبد».
وكان الطلبة فى الجامعات يحملون عدداً من دفاتر المشروع ويذهبون إلى مدنهم وقراهم يجمعون التبرعات وطغت الروح الوطنية على المشروع، الذى كانت حصيلته فى العام الأول 17 ألف جنيه وفى التالى 13 ألف جنيه وكان شعار اللجنة التنفيذية هو «تعاون وتضامن فى سبيل الاستقلال الاقتصادي».
وأسفر هذا المشروع فى نهاية الأمر عن انشاء مصنع للطرابيش بالفعل فى العباسية «شارع مصنع الطرابيش» بالتعاقد مع شركة ألمانية اسمها «هاريتمان» وتم افتتاحه فى 15 فبراير 1933 وفى نهاية العام بدأ الطربوش المصرى يغزو الأسواق المحلية.