نجيب محفوظ .. الرجل الذي عاش ألف سنة
بعد غد.. يبدأ العام المائة علي مولد عبقري مصر الأول نجيب محفوظ ... في 11ديسمبر عام 1911 ولد أديب نوبل وفي 30 اغسطس عام 2006 رحل عن دنيانا عن عمر يقارب ال95 عاما . مات ولا زال حيا كآلاف الموتي الاحياء الذين قدموا للعالم أعظم الانجازات وأفضل الاختراعات والابتكارات ، وهناك مليارات من الأحياء الموتي يمرون في الحياة ولا يشعر بهم أحد لأن اهتماماتهم لا تتجاوز ذواتهم . أما نجيب محفوظ فقد كان طيفا نادر المرور علي العقل المصري والعربي بفلسفته وحسه ووعيه وأدبه وانخراطه بمكنونات الوطن وذوبانه في جغرافيا مصر وسياحته في تاريخها .
وبمعني آخر فإنه رجل لا يتكرر ، أو قلما يحدث أن يفلت مثله الي عالم الضوء في مصر . عاش حياة بسيطة أقرب في نصفها الأول الي الفقر والتقليدية ، لا يدخل معارك مباشرة مع أحد ويضع جل اهتمامه في قلمه ولا يسعي لشهرة أو مال أو مكانة وانما يعلم أن تلك النجوم تأتيه مقدمة شارات الولاء والخضوع . وقد كان .
وفدي ، ليبرالي ، تقدمي ، ينشد العدالة ويكره السلطة ويرفض أي سيطرة علي العقل ، ويتدرج من الشك الي الالحاد الي الايمان اليقيني . يفتح خزائن أصدقائه وجالسيه ليترجم مصر ويقدمها الي العالم لحما ودما وأحداثا وحكايات تعبر عن واقع البلد وسكانه وحياتهم اليومية . هو رجل عاش وسيعيش ألف سنة مما نعد لأنه قرأ الماضي وحلل الحاضر وتنبأ بالمستقبل وقدم وصفا حقيقيا لهذا البلد .
حياة بسيطة وأعمال مبهرة
ولد نجيب محفوظ في أسرة متوسطة في القاهرة عندما كانت مستعرة بتيارات سياسية متنوعة تبحث عن أي نافذة للاستقلال والخروج من سيطرة القبضة البريطانية ، وبعد عامين فقط من وفاة زعيم الشباب المحبوب مصطفي كامل . قضي الاديب العالمي سنواته الاولي في ظل حراك سياسي لم تشهده مصر طوال تاريخها ورأي بعينيه مظاهرات الطلبة والعمال والنساء المطالبة بالاستقلال وشاهد كيف أحب الناس سعد زغلول كما لم يحبوا أحدا في تاريخ مصر وكيف كان اسمه يطرب الاذان ويخطف القلوب . في جامعة القاهرة اختار محفوظ الفلسفة ليدرسها ويحرر فيها عقله من قيود الماضي واغلال الحاضر بعد سنوات قليلة من أزمة كتاب »الاسلام ونظام الحكم« للشيخ علي عبد الرازق ، وكتاب »في الأدب الجاهلي« لطه حسين . كانت سنوات الثلاثينيات من القرن الفائت مفعمة بالحركات التحررية والافكار الرافضة للحدود والقيود وظهر مفكرون عديدون دعوا الي التغريب والالحاد واللادينية وكان الشاب اليقظ يشهد ذلك بعقل مفتوح وقلب مشتعل بالحب والنقاء .
واذا كان البعض استغرب أن يلتحق نجيب محفوظ بالعمل الحكومي متمثلا في سكرتارية وزارة الاوقاف عام 1938 فإن ذلك كان أفضل لشخص أديب يبحث عن وقت يجلس فيه الي الاصدقاء والحكائين ، ثم يجد وقتا آخر ليكتب تلك الحكايات الواقعية ويخرجها لنا في اطار ادبي جذاب . إن العمل الحكومي عمل تقليدي ، بسيط لا يقيد صاحبه ولا يهدر وقته ويجعله أشبه بماكينة تعمل لعدد محدد من الساعات . وفي هذه الحالة فإن كثيراً من الطاقات الابداعية يمكن أن تنفجر وتشتعل وتتجدد . لقد استمر "محفوظ " في عمله الحكومي حتي بداية الستينيات حين اختير مديرا للرقابة علي المصنفات ، ثم استمر عمله في مجال الثقافة والسينما حتي عام 1971 حين بلغ الستين وتقاعد وتحول الي كاتب متفرغ في جريدة الاهرام . وطوال هذه الرحلة أنتج نجيب محفوظ روايات متنوعة رسمت صورة حقيقية وواقعية عن المجتمع المصري كان أبرزها الثلاثية وهي: بين القصرين ، وقصر الشوق ، والسكرية والتي صاغ فيها رؤيته لأعظم ثورة مصرية هي ثورة 1919 وما تبعها من أحداث وتداعيات وتأثيرات علي مصر والمصريين . ثم كانت روايات فترة الستينيات التي تابعت تغيرات المجتمع بعد يوليو 1952 مثل ميرامار، وثرثرة فوق النيل ثم الكرنك التي عبرت بصدق عن تحول الحلم الناصري الي كابوس مؤلم . وتتابعت روايات وابداعات نجيب محفوظ في الحرافيش وقشتمر وحكايات حارتنا والباقي من الزمن ساعة ويوم قتل الزعيم .
ومن بين أشهر الروايات التي أحدثت كثيراً من الصخب رواية أولاد حارتنا التي صورت حارة بها حاكم ذو هيبة يدعي الجبلاوي وكلما فسد اهل الحارة أيرسل اليهم شخصاً لاصلاحهم وهو ما اعتبره النقاد تعبيرا عن الانبياء والخلق واعترض الشيخ محمد الغزالي علي الرواية التي نشرت مسلسلة في الاهرام وقبل اكتمالها تم وقف النشر ورفض نجيب محفوظ طبع الرواية مالم توافق عليها مؤسسة الازهر الا أن بعض الناشرين اللبنانيين تلقفوا الرواية وقاموا بطبعها وظلت ممنوعة من دخول مصر حتي عام 2006 عندما وافق نجيب محفوظ علي اعادة طبعها مرة اخري عن دار الشروق .
وفي عام 1988 قال نجيب محفوظ لاصدقائه في الاهرام إن خبر جائزة نوبل سينشر غدا في الصفحة الاولي وذهب الي المنزل ونام قليلا وأيقظته زوجته لتخبره بفوزه بجائزة نوبل ولم يصدق الا بعد أن زاره السفير السويدي مهنئا.
وكان »محفوظ« قد فاز من قبل بعدة جوائز محلية كان أولاها جائزة قوت القلوب الدمرداشية في الاربعينيات .
وفي اكتوبر عام 1994 طعنه شاب متطرف بسكين في رقبته وفر هاربا ونقل نجيب محفوظ ذو الرابعة والثمانين عاما وهو ينزف الي المستشفي وشاءت ارادة الله أن يبقي حيا وأن يحكم علي الجاني بالاعدام . وبقي محفوظ سنواته الاخيرة كما عرف عنه دائما مرحا بسيطا يحب الناس ولا يحذر منهم وقد ذكر لزميلي اسامة السعيد الصحفي في الاخبار عندما حاوره عام 2000 انه ينتظر الموت منذ سنوات لكنه لا يأتي . وكان مما قاله ايضا وحكاه لي الزميل ولم ينشره أنه يشعر أنه تحول الي أثر أو تحفة فنية يأتي اليها السياح ليلتقطوا لهم صوراً معه دون أي فائدة اخري . وفي اغسطس الحار عام 2006 وعلي أثر قرحة نازفة ودع نجيب محفوظ مصر ليبقي نجما خالدا في سمائها .
الوفد والأديب
كان نجيب محفوظ وفديا أصيلا يحمل تراث الوفد وقيمه العظيمة ويبشر بها في حكاياته كأساس لمصر التي يتمناها . ويمكن القول إن أقرب شخصية من شخصيات روايات الاديب تعبيرا عن نفسه هي شخصية كمال عبد الجواد في رواية " قصر الشوق " .وقد ذكر أديب نوبل ذلك بنفسه عندما سئل عن سيرته الذاتية. ويجد الباحث مصطفي بيومي أحد أبرز المتخصصين في دراسة أدب نجيب محفوظ أن "عبد الجواد " يتشابه مع " محفوظ " في كل شيء تقريبا حتي إن الاديب اختار لتلك الشخصية تاريخ ميلاد مقارباً في نفس شهر ميلاده وهو شهر ديسمبر ولكن في عام آخر هو عام 1908. ونجد كمال عبد الجواد عاشقا للوفد ومبادئه وتاريخه وقابلا أن يناقش أي شيء الا ثوابت الوفد . وكثيرا ما يقول كمال عبد الجواد إنه لا يحق لأحد ان يتحدث باسم مصر سوي رجل واحد هو سعد زغلول . ونجد هذه الشخصية التي تعبر عن مكنون ذات الاديب تؤمن بالوحدة الوطنية وبالحرية والديمقراطية وتري أن الوفد المصري ليس مجرد حزب سياسي وانما هو التعبير الاشمل للأمة وتعتبر الوحدة الوطنية أحد الثوابت غير القابلة للتشكيك ، وان احدا لا يمكنه قيادة مصر سوي الوفد .
ويلاحظ مصطفي بيومي أن سعد باشا زغلول يحظي بمكانة خاصة عند نجيب محفوظ . فهو المثال الأقرب للزعيم الكامل .. إن »بيومي« يرصد دفاع محفوظ عن سعد زغلول في رواية "أمام العرش " عندما يسأل عن اسباب عدم التحاقه بالحزب الوطني في زمن مصطفي كامل وعمله بالوزارة في ظل الاحتلال فيقول : " إن الحزب الوطني كان يدعو الي مباديء خيالية مثل " لا مفاوضة الا بعد الجلاء " مما يعني بقاء الاحتلال الي الابد ، ومقاطعة وظائف الدولة العامة مما يعني هيمنة الانجليز عليها ." ثم يقول "ولقد قبلت الحياة الرسمية لأمارس من خلالها ما استطيع من مقاومة ومن خدمات للوطن ."
ويحضر سعد زغلول بقوة في باقي روايات محفوظ ، ففي الثلاثية نجده الزعيم المحبوب الذي يحبه الجميع ويسيرون وراءه. وعلي لسان "فهمي " في "بين القصرين " فإن ما قام به سعد زغلول قبل ثورة 1919 عمل مجيد لا يوجد من ينهض به مثله بعد نفي محمد فريد " . وفي نفس الرواية يأتي النص الكامل لتوكيل سعد وزميليه للحديث باسم مصر . ثم نجد فهمي ابن السيد احمد عبد الجواد شغوفا بكل ما يقوله سعد حتي إنه يملي علي شقيقه الاصغر كمال خطبة سعد باشا في جمعية الاقتصاد والتشريع ومنها "اعلنت انجلترا حمايتها علي مصر من نفسها دون ان تطلبها الامة المصرية او تقبلها، لذا فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا . »وتتابع احداث الثورة في بين القصرين« وينضم اليها »فهمي« وتتكرر الاضرابات وتتعدد المظاهرات ويسقط الشهداء وتسارع انجلترا الي الإفراج عن سعد فيقول فهمي »لو لم يسلم الانجليز بمطالبنا لما أفرجوا عن سعد. سيذهب الي اوروبا ويعود بالاستقلال . وعندما يتحدث »فهمي« مع والدته »أمينة« فتقول له »اين الرسول عليه الصلاة والسلام؟ كان الله يعينه بالملائكة علي الكفار ، فيرد »فهمي« قائلا " سيعمل سعد زغلول ما كانت الملائكة تعمله« . وفي »قصر الشوق« يظهر كمال عبد الجواد كمحب عظيم لسعد زغلول ويرد علي لسانه »إنه ليس في مصر من يتكلم باسمها الا سعد، وإن التفاف الامة حوله جدير في النهاية بأن يبلغ بها ما ترجوه من آمال«.
وفي »حكايات حارتنا« ينقل الراوي عن الطفل الي ابيه ما يردده الناس عن اسم سعد الذي كان منقوشا علي البيض بعد خروجه من الدجاج.
وبعد وفاة سعد باشا كان حاضرا بقوة في ذكريات أبطال روايات »محفوظ«، ففي »ميرامار« نجده حاضرا لدي عامر وجدي الذي يتفاخر بأنه كانت تربطه علاقة ود مع سعد وكان يتابع مقالاته. وفي رواية »قشتمر« يقول البطل عن اشتراكه في مظاهرة "نحن مع سعد لسبب وبدون سبب وضد الملك (فؤاد) لسبب وبدون سبب." وفي كثير من الروايات يتخذ نجيب محفوظ يوم وفاة سعد باشا كيوم لتأريخ ابطال رواياته.
وفي "أمام العرش " يلتقي سعد زغلول بجمال عبد الناصر فيقول سعد له : لقد حاولت أن تمحو اسمي كما محوت اسم مصر .
وفي نفس الرواية يدافع النحاس عن توقيعه لمعاهدة 1936 والغائه لها بتقلبات الظروف وبالفرص المتاحة ، ويبدو ذلك منطقياً. وفي »الباقي من الزمن ساعة " يظهر تأثر محفوظ بحكومة الوفد عندما يقول أحد أبطاله« انتهت اللعنات وسوف يحكم الوفد الي الابد " فيربط بذلك بين الوفد وغياب اللعنات!
وفي "المرايا " يهتز رضا حمادة طربا يوم الغاء معاهدة 1936 ويشعر أن نسيم 1919 يرفرف علي مصر . ويعبر ايضا حامد برهان في "الباقي من الزمن ساعة " علي قرار الغاء المعاهدة بقوله " لايقدر علي الغائها الا من عقدها فالوفد وحده« .
وتتناول كتابات »محفوظ " حادث 4 فبراير عام 1942 فيورد دفاعا مقنعا في رواية "قصر الشوق " علي لسان كمال عبد الجواد ورياض قلدس منه "أن النحاس ليس بالرجل الذي يتآمر مع الانجليز في سبيل العودة الي الحكم .إن احمد ماهر مجنون ،هو الذي خان الشعب وانضم الي الملك ثم اراد ان يغطي مركزه بتصريحه الاحمق ." وفي "المرايا " يقول الراوي عن النحاس في وقت حادث 4 فبراير انه "أنقذ الوطن والعرش ." ويقول اسماعيل قدري في "قشتمر " مدافعا عن زعيم الوفد قائلا :" لا تشكوا في الوفد وشكوا فيما شئتم ."
وتعدد رواية "امام العرش " انجازات مصطفي النحاس وحكومات الوفد قبل 23 يوليو ومن اهمها : الغاء الامتيازات الاجنبية ، تأسيس جامعة الدول العربية
أزمات سياسية
ولاشك أن الاديب الهاديء المهذب دخل في عدة أزمات بسبب كتاباته قد تكون أشهرها ازمة "اولاد حارتنا " الا أن هناك أزمات أخري كان للسياسة الجانب الأكبر فيها. عندما نشر الرجل روايته "ميرامار " وتم تحويلها الي فيلم اعترضت الرقابة علي كثير من المشاهد وكان من بينها مشهد يقول فيه البطل " طظ في الاتحاد الاشتراكي " وثارت أزمة كبيرة انتهت بتكليف عبد الناصر للسادات بمشاهدة الفيلم وطرح رأي واضح فيه ، وهو ما انتهي باجازته . كذلك اعترض عبد الحكيم عامر علي فيلم ثرثرة فوق النيل واعتبره موجها ضد النظام ، ومن قبل رفض هيكل نشر رواية " المرايا " مسلسلة في الاهرام لما تضمنته من اشارات لشخصيات موجودة بالفعل في الواقع المحيط .
وفي بدايات عهد الرئيس السادات وقع نجيب محفوظ ضمن من وقعوا من مثقفين علي بيان توفيق الحكيم الشهير الرافض لحالة اللاسلم واللاحرب وكان جزاؤه منع نشر رواياته في الاهرام ووقف عرض افلامه في التلفزيون .
الشخصيات الحقيقية
وتدور حكايات عديدة حول الشخصيات الحقيقية لأبطال نجيب محفوظ في رواياته . ومن الواضح أن اكثر الاعمال تعبيرا عن الشخصيات الحقيقية التي التقاها "محفوظ " ونقلها من الواقع الي الأدب "المرايا " التي جسدت لكثير ممن التقاهم وعرفهم "محفوظ " من أدباء ونقاد وكتاب ومثقفين وساسة ، وربما أكثر الشخصيات وضوحا شخصية سيد قطب ، ويوسف السباعي ، وثروت أباظة .
بالنسبة لسيد قطب فقد كان من اوائل النقاد الذين كتبوا عن محفوظ وقد أعجبه فيه تحرره وعمق تفكيره وبشر به كرائد للرواية العربية .ومما قاله "قطب " عن " محفوظ " : خان الخليلي هي القصة الثالثة للمؤلف الشاب، سبقتها قصة "رادوبيس" وقصة "كفاح طيبة" وهي ترسم في صدق ودقة، وفي بساطة وعمق، صورة حية لفترة من فترات التاريخ المعاصر، فترة الحرب الاخيرة، بغاراتها ومخاوفها، وبافكارها وملابساتها، ولا ينقص من دقة هذه الصورة وعمقها انها جاءت في القصة اطارا لحوادثها الرئيسية، وبيئة عاشت القصة فيها . وقال "قطب " أيضا : كل رجائي الا تكون هذه الكلمات مثيرة لغرور المؤلف الشاب، فما يزال امامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء الي خصائصه، واتخاذ اسلوب فني معين توسم به اعماله، وطابع ذاتي خاص تعرف به طريقته، وفلسفة حياة كذلك تؤثر في اتجاهه .
وبعد التحولات الجذرية التي شهدها سيد قطب عقب انضمامه للاخوان المسلمين انقطعت العلاقة بين الاديب والمفكر وزاره محفوظ في بيته في حلوان بعد الافراج عنه عام 1964 وأصيب بالصدمة للتغييرات التي طرأت علي تفكيره . وعندما اعدم "قطب " عام 1966 تأثر نجيب محفوظ بشدة وحزن عليه ، وكتب عنه في المرايا .
وقد اقتبس "محفوظ " شخصية محجوب عبد الدايم في رواية القاهرة الجديدة من شخص متسلق قابله في العمل الحكومي وكان يحصل علي مناصبه عن طريق الرشوة الجنسية ، كما اقتبس شخصية احمد عاكف في رواية خان الخليلي من شخص التقاه في الجامعة وقد قابله بعد صدور الرواية وشكره .
ومما يحكيه رجاء النقاش أن أحد الابطال الحقيقيين لاحدي روايات "محفوظ " حاول قتله . وكان هذا الشخص هو بطل رواية " السراب " الذي ظهر باسم كامل رؤبة لاظ وكان محور الرواية نفسياً بحتاً حيث كان البطل يعاني من مشكلات نفسية عديدة وبعد صدور الرواية قابل البطل الحقيقي الذي كان اسمه احمد نجيب محفوظ ومعه مسدس وقال له "انت كاتب عني يا نجيب ؟" وجري خلفه محاولا قتله حتي تدخل بعض الاصدقاء واستطاعوا تهدئته .
أما خالد صفوان الذي كان يمثل شخصية رجل الامن الجلاد في رواية الكرنك فكان يشير الي شخصية صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات الاسبق وقد رسم "محفوظ " ملامحه في احدي المقاهي بالعباسية عندما شاهد رجلاً صارم الوجه له هيبة يجلس ويطلب نارجيلة وسأل عنه وعلم أنه حمزة البسيوني مدير السجون الحربية في عهد عبد الناصر وأخذ يدقق في وجهه ليرسم شخصية خالد صفوان في الكرنك.
كذلك استقي محفوظ شخصية سرحان بطل رواية اللص والكلاب مما نشر في الصحف خلال الستينيات حول السفاح الشهير محمود سليمان والذي كان يطارد مطلقته وزوجها ويهرب بمعجزة من بين أيدي الشرطة حتي قتلته خلال حصارها له . كما ان معظم شخصيات رواية ميرامار كانت حقيقية وهناك بالفعل فندق يحمل ذلك الاسم وكانت تديره سيدة يونانية معروفة .
أما السيد احمد عبد الجواد بطل رواية بين القصرين فاستقاها أديب نوبل من رجل كان يعيش الي جوار عائلته ويتعامل بقسوة وحدة وصرامة مع زوجته وأبنائه.
لعبة الاسماء في أدب محفوظ
ومما لم ينشر عنه حتي الآن تفاصيل اختيار أديب نوبل لأسماء شخصياته ، وهناك كتاب كبير تحت الطبع للباحث مصطفي بيومي حول تلك الشخصيات سوف يصدر خلال شهور قليلة عن دار الشروق . ومما يحتويه ذلك الكتاب النادر أنه من اللافت أن عدد شخصيات روايات نجيب محفوظ 1734 شخصية وردت في كافة اعماله ، وان اختيار أسماء تلك الشخصيات كان يخضع لقوانين صارمة ولا يمكن ان يكون محل صدفة أو اختيارا عشوائيا . لذا لم يكن غريبا أن اكثر عشرة أسماء ترددا بين شخصيات نجيب محفوظ وهي احمد ومحمد ومحمود وعلي وحسن وحسين ... هي أكثر عشرة شخصيات ترددا في موسوعة السلطان قابوس للاسماء الشائعة بالمنطقة العربية . ومن المثير ان أقرب شخصيات نجيب محفوظ الي قلبه والتي رآها معبرة عن افكاره وحياته هي شخصية كمال عبد الجواد في قصر الشوق وقد اختار لها "كمال " اعتقادا منه ان مثل هذه الشخصية هي الاقرب للكمال.
وكان من الغريب أنه لا يوجد أي شخص من بين الشخصيات الـ1734 الواردة في روايات الاديب العالمي حمل اسم "نجيب " أو "محفوظ " وكأنه يشير الي أنه خارج اي سياق وأنه مجرد مصور وناقل للمجتمع بعيدا عن التدخل المباشر في احداث الروايات .
كذلك نجد "محفوظ " يلجأ الي اطلاق أسماء مختصرة "دلع " علي شخصيات فتيات الليل في معظم رواياته مثل تي تي ، فيفي ، ريري وغالبا لا يمكن أن تكون هناك فتاة ليل بدون اسم سهل النطق من مقطعين حتي يتسني للأجانب نطقه بشكل يسير . وفي رواية "بداية ونهاية " تسأل نفيسة من أحد الزبائن عن اسمها فتقوله فيرد عليها الزبون مستغربا "الا يوجد اسم أفضل ؟" وكأن السيدات العاملات بالدعارة لا يمكن أن يتسمين بأسماء طبيعية . كذلك يختار الرجل أسماء غريبة للفتوات والحرافيش .
ومن الملفت أيضا ان الاديب العالمي كان يترجم كل فترة بواقعها السياسي لذا فإن السيد احمد عبد الجواد في الثلاثية يختار لابنائه أسماء تركية مثل فهمي ، ياسين ، وكمال . وعندما يختار أسماء لبناته فإن اول اسم يتبادر الي الذهن اسم ام المؤمنين السيدة خديجة ، ثم يكني الفتاة الثانية باسم ام المؤمنين السيدة عائشة . وعندما يلجأ الرجل لاظهار شخصيات مسيحية في رواياته فيجب ان تكون أسماؤها معبرة تماما عن الديانة المسيحية والا يكون الاسم مشتركا بين المسلمين والمسيحيين مثل اسم " جرجس " ، "قلدس " ، و"مرقص " وغيرها من الاسماء .
مصادر الدراسة :
1- جمال الغيطاني ـ نجيب محفوظ يتذكر ـ دار المسيرة 1980 ـ بيروت.
2- رجاء النقاش ـ في حب نجيب محفوظ ـ دار الشروق 1995.
3- د.محمد حافظ دياب ذ سيد قطب الخطاب والايدلوجيا ـ رؤية للنشر 2010.
4- مصطفي بيومي ـ سعد زغلول قي الادب المصري الحديث ـ دار الهلال
5- مصطفي بيومي ـ وصف مصر في ادب نجيب محفوظ ـ الحكام ـ الاهرام للنشر.
لقاء شخصي مع الباحث مصطفي بيومي أحد أبرز المتخصصين في أدب نجيب محفوظ.