رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

أيام الميدان.. ذكريات «المدينة الفاضلة»

بوابة الوفد الإلكترونية

لم يتوقع أكثر المتفائلين انفراج الصخرة الجاثمة على قلب الوطن، بطل مفعول شعيرة التوسل أمام «فرعنة» نظام الحزب الوطنى وزبانيته طوال فترة حكمه.. أكل «الرئيس المخلوع حسنى مبارك»

وشرب على أحلام جيل بأكمله، وتآكلت الطموحات حتى بلغت ذروة تآكلها ملخصة فى «كوب ماء نظيف» يسدد رمق الظمأ المتواصل عن «الأمنيات».
جذوة نيران الثورة التونسية، ضاجعت حلماً كامناً فى الصدور، وطارت الأفئدة إلى «تونس» لعلها تأتينا بـ «قبس الثورة»، أو تجد فى تضحية «بوعزيزي» أيقونة النضال «هدي» لشعب ضل الطريق إلى آدميته.
كل الطرق كانت تؤدى إلى «استحالة» التغيير «منزوع المواجهة»، لكن «الميليشيات» المجهزة سلفاً لـ «حماية النظام»، ظلت سداً منيعاً يحول بين المرء وعزمه.. الثلاثاء 25 يناير كان موعداً مع الخروج من «الكهف» الذى وارتنا جدرانه 30 عاماً، معتقة بـ «الخوف والرهبة» حتى الثانية ظهراً، كنت فى عملى مستسلماً لـ «صوت اليأس»، الذى لم يفتأ يتركنى حتى صرت سلبياً أو من المتخاذلين، من خلف السور الحديدي، موت جحافل الثوار قادمة من منطقة «بولاق الدكرور» مرددة هتافاً خالداً «عيش.. حرية.. كرامة.. إنسانية»، سرت فى عروقى دماء الحرية، واستأذنت أستاذى «ياسر شوري»، الخروج لمتابعة المشهد «صحفياً»، وعلى كوبرى الجلاء «أمام قسم الدقي»، فاضلت بين الانضمام للصفوف الأولى لـ «رصد» أكبر قدر من الكواليس، أو الالتزام بـ «المؤخرة»، تحسباً لـ «هجوم» من جنود الأمن المركزى المتشحين بالسواد.
على مقربة مني، كان أحد الزملاء مرجحاً الترقب من على بعد، لضمان الفرار، وفى حال احتدام المواجهة، بينما كان صديقى «إسلام جبارة» مسانداً لرغبة التقدم والمشاركة، دون أدنى توقع بأن تلك الخطوات ستكون ضمن مشوار «سقوط النظام».
على بعد سنتيمترات من الطابور الأول لـ «جنود الأمن المركزي»، عايشت حديثاً دار لبضع دقائق بين شاب ذى بشرة بيضاء تبدو عليه علامات الثراء، مع أحد المجندين الذى يقطر وجهه «بؤساً»، قال الشاب مبتسماً: «على فكرة لازم تعرف إننا نازلين ندافع عن حقك»، مش هدفنا الاشتباك معاك، انت غلبان، تقدر تقولى بعد ما تخلص جيشك، هتعيش إزاى، وهنتجوز منين، والله العظيم أنا مرتاح مادياً، ونازل أساعدك، افتح لنا الطريق نعدي، ولو طلبوا منك تضربنا، «مثل» وعدينا..
اغرورقت عينا المجند بالدموع، خالطت كلمات الشاب الصادقة فؤاده، ثم استعاد قسوة رؤسائه، قائلاً: «ممنوع، مقدرش»، وقتها أذن الشباب لـ «صلاة العصر» وهتف الباقون «الله أكبر» وعقب أداء الصلاة، تشابكت الأيدى وهتف الجميع «هنعدي»، دون أن أعرف شيئاً عن «الخطوة التالية». عبرنا حاجز «الأمن المركزي» تحت ظلال «العصي» التى نالت من ظهورنا، وكسرت ساعة «إسلام جبارة» وقلت له مبتسماً «عادى يمكن تبقى ثورة.. محدش عارف»، إلى كوبرى قصر النيل حيث حاجز آخر من «الأمن المركزي» كان النداء «ادخلوا من ناحية اليمين» بقوة، مفيش وقت للتفاوض معهم، قوة الهجوم بـ «اتجاه الأمن» فتحت الطريق بسهولة شديدة، وفر الضباط هاربين، ليبقى الطريق إلى الميدان معبراً بهتاف «ارحل ارحل زى فاروق.. شعبنا منك بقى مخنوق».


داخل ميدان التحرير كان المشهد مدعاة للتفاؤل من حيث أعداد المتظاهرين، وقاسياً من ناحية العنف المستمر حتى صلاة المغرب من جانب قوات الأمن، و«برودة الجو القارصة»، وقتئذ غلبتها حالة الدفء غير المسبوقة بين شباب الميدان، اختل أداء قوات الأمن المركزى التى سارعت فى التعزيز بـ «أسطول» متدفق من السيارات، بينما رغبة المصريين فى اللحاق بـ «الركب التونسي» تجلت فى الصمود المستمر حتى قبيل منتصف الليل.
وسط الميدان، تمكنت مجموعة من إعداد إذاعة داخلية، افتتحها الشاعر عبدالرحمن يوسف بـ «تحية للثوار» فى كل محافظات مصر، ومطالباً بضرورة الاعتصام لحين تحقيق المطالب التى خرج من أجلها المصريون، لافتاً إلى أن أهالى السويس والمحلة تمكنوا من السيطرة على مبنى المحافظة ومديرية الأمن.. واستطرد قائلاً: «يا شباب الإذاعات العالمية تقدر أعدادكم بـ «45 ألفاً»، اصمدوا واصبروا.. بعدها تدخل «إسلام جبارة»، هامساً فى أذنى مستحيل يسيبونا فى الميدان لحد الصبح»، أكيد هيضربوا، ولم تلبث كلماته يتوقف صداها، حتى قطعت الأنوار، وحوصرت المداخل وتواصل القصف بـ «المياه» والقنابل المسيلة للدموع، والملاحقات حتى «مبنى ماسبيرو».. ومع سقوط المصابين، رد مجموعة من الشباب بحرق «كشك حراسة» أسفل «كوبرى أكتوبر» وحاولوا إغلاقه أمام السيارات المارة، لكن صوتاً نسائياً صرخ بشدة «يا جماعة إحنا سلميين، ومحتاجين الشعب يتعاطف معانا» حرام عليكم.
ميليشيات الأمن المركزي، واصلت أعمال المطاردة حتى الثالثة والنصف من صباح الأربعاء، وأحكمت حصارها على جميع المداخل والمخارج، وقتها كنت فى طريقى إلى أعلى «الكوبري» ونصحنى «أمين شرطة» بالهرب فوراً، محذراً من عدم رؤية الشمس مرة أخرى، وقد كان.
خفت ضوء «الاحتجاجات» يومى الأربعاء والخميس 26 - 27 يناير، ومع نهار الجمعة المعروفة بـ «جمعة الغضب» كنت قد كلفت بمتابعة مسجد «الأزهر» بمنطقة الحسين، ضمن فريق من زملائى، موزعاً على جميع الميادين الحيوية، ذهبت فى الـ 10 صباحاً خشية زحام يحول بينى وبين الصفوف الأولى فى «الجامع الأزهر» وعلى بعد أمتار، كان اثنان من مخبرى أمن الدولة متمركزين أمام سور ذى فتحة صغيرة يؤدى إلى المسجد، بـ «صوت منفر» قال أحدهما «رايح فين» قلت له عابثاً «هصلى إن شاء الله». بـ «كلاحة وجه» رد الآخر «بطاقتك»، ثم طالعها قائلاً: «إنت من حلوان» جاى تصلى هنا ليه أجبته بـ «إن المساجد لله»، قال «ممنوع» روح صلى فى حلوان».
قلت له أنا صحفي، فرد قائلاً: يبقى خلاص استأذن من الباشا وبرضه مش هيدخلك». وإلى الباشا الذى كان يجلس فى غرور على كرسى أمام بوابة المسجد، دار نفس الحوار، فقلت له «يا باشا حضرتك هتمنعنى من أداء الصلاة»، قال نعم.. فبادرته قائلاً: «اللى انتوا بتعملوه ده هيولع البلد». فرد قائلاً: «يا سيدى إحنا عايزينها تولع». قلت له: «قول إن شاء الله» ثم اتجهت إلى مقهى على امتداد الشارع تحمل حوائطها صورة «الملك فاروق» وهناك كان يجلس بعض من مراسلى الصحف والقنوات العربية والعالمية، وبدأت الصلاة وشرع خطيب المسجد فى التحذير من العنف، ومعدداً فضائل مصر فى الكتب المقدسة، ومع إقامة الصلاة عدنا، حيث مجموعة من اللواءات تحاصر المسجد مستأذنين فى أداء الصلاة على الرصيف، فطأطأ أحدهم رأسه موافقاً، وعقب التسليم خرج طوفان بشرى من المسجد بهتاف «حسبنا الله ونعم الوكيل»، وكان أول المصابين «مصور الأهرام»، عبر رشقه بالكاميرا فى وجهه من أحد عناصر «أمن الدولة»، وتحولت منطقة الأزهر بين طرفة عين وانتباهتها إلى «بركان» تتصاعد ألسنته هاتفة «الشعب يريد إسقاط النظام»، بينما ترد مدرعات الأمن المركزى بـ «وابل من القنابل» فى محاولات بائسة لـ «تفريق المتظاهرين» ومن أعلى كوبرى الأزهر شرع بعض الشباب فى إلقاء «أوراق مشتعلة» على جنود الأمن المركزي، غير أن «الثوار» شجبوا «العنف» مرددين هتاف «سلمية».
فصل آخر من المعاناة، بدأ عقب وقت مستقطع، إبان عودتى إلى الصحيفة، سيراً على الأقدام من منطقة الحسين حتى «الملك الصالح» إزاء إغلاق جميع الطرق المؤدية إلى «محطات المترو» ورفض سائقى التاكسى التحرك فى وسط القاهرة، مع مجموعة من الزملاء «أحمد أبو حجر، إسلام جبارة، دعاء البادى، سها صلاح، ومونيكا عياد»، انطلقت إلى الميدان، اندمجنا مع مسيرة قادمة من «المهندسين»، هتفنا «واحد.. اثنين.. الشعب المصرى فين»، فرقتنا قنابل الغاز أمام دار الأوبرا، وبقى «أحمد أبو حجر» ممسكاً بيدى كالوالد لولده، شيء من الرغبة فى تقدم الصفوف، كان دافعاً لتخفيف العبء عن الثوار الصادمين لساعات طويلة أمام وابل الرصاص المطاطي، و«الدخان» المنبعث من القنابل «أمريكية الصنع»، غير أن «بشاعة» القنابل، كادت أن تصيبنى بـ «اختناق»، لولا تدخل «أبو حجر»، عقب انعدام الرؤية تماماً لكلانا قائلاً «انت فين» جذبنى بيده تقهقرنا إلى الخلف، واستقر بنا المقام خلف فندق «سميراميس»، وقتها كان شاب عار الجسد فى نصفه الأعلي، ممسكاً بـ «الطوب»، وعازماً على رشق واجهة الفندق.


قاطعه الثوار، «إحنا ما اتفقناش على كده»، ده مكان الناس بتاكل فيه عيش حرام»، «جنود الأمن المركزى على مقربة من مبنى مجمع التحرير من ناحية شارع قصر العيني، ومجموعات شبابية تحفز على ضرورة المواجهة، تفادياً لـ «حصار» الثائرين على مشارف الميدان، بكرة «كابلات كهربائية» كانت درعاً اختبأ خلفه الثوار وقاوموا بما تيسر من «الحجارة» وزجاجات «المولوتوف»، ومع أذان المغرب تمكن الشباب من «إحراق» سيارة أمن مركزى بجوار «المجمع». دوى انفجارها صاحبه هتاف «الله أكبر» وبعدها بدقائق تواترت أنباء عن تمكن الثوار من «إحراق مبنى الحزب الوطني»، نيران الحرائق وقتئذ، كانت منادات الأمل الباعثة على قرب «دخول الميدان».
إرهاصات «المدينة الفاضلة» بدأت فى الظهور تباعاً، مع احتدام المواجهات، وشيوع أنباء عن سقوط شهداء فى جميع «الميادين»، العيادات المتنقلة، و«حاملو الأطعمة البسيطة» انتشروا فى جنبات المنطقة المحيطة بـ «التحرير».. خمدت الاختناقات فى الفترة ما بين «المغرب والعشاء» انتقلت مع صديقى إلى الميدان تحديداً أمام «كنتاكي»، اللجان الشعبية وقتئذ كانت تحيط بـ «المتحف المصري» ومجموعة تحاول وضع حواجز حديدية لمنع وصول إمدادات الأسلحة والذخيرة إلى «أفراد الشرطة» أمام مجلس الشعب، ووزارة الداخلية، وسيارة إطفاء تمكنت من اختراق الحاجز، أعدنا ترتيبه، ثم فوجئنا بخبر نزول قوات الجيش إلى شوارع القاهرة، الخبر فى حذ ذاته اعتبرناه «انتصاراً»، شرعت 3 مدرعات فى الاقتحام، عبرت واحدة، وتعثرت الثانية، وتوقفت الثالثة.. تلك اللحظة كانت شاهدة على تحول المشهد تماماً داخل الميدان، أعلى المدرعة وقف الشباب وأنا معهم، طالبنا بتفتيشها، خشية تعاونها مع «الداخلية» ضد الثوار، بينما مجموعة أخرى تهتف «العسكرى أخونا»، وينطلق الهتاف الأفضل «الجيش والشعب

إيد واحدة».. أقسم المجند عندئذ قائد المدرعة، أن الجيش موجود للحماية والتأمين وليس المواجهة.
عدت إلى صديقي، بعد أن تحول الميدان، إلى أطلال معتقة بـ «الدماء» والدخان، أخبرنى أن «مبارك» سيلقى خطاباً ولابد أن نستمع إليه، سيراً على الأقدام اتجهنا إلى منطقة «عابدين» حيث الشوارع الخالية، وعميد بالقوات المسلحة «مترجلاً» بصحبة جنوده، بادرناه بالسؤال «يا باشا، انتوا مع مين» فابتسم قائلاً: «متخافوش إحنا معاكم».
على مقهى بسيط، انتظرنا خطاب مبارك، حتى انتصف ليل «جمعة الغضب»، جاء الخطاب مخيباً للآمال على الأقل بالنسبة لنا، بينما «رواد المقهي» مفرطون فى إعجابهم وغارقين فى رد تقليدى عبثى «كتر خيره».
إلى رمسيس حيث الخلود إلى الراحة بضعة ساعات مع عزم أكيد على العودة إلى الميدان لـ «الاعتصام»، توجهت إلى «غرفة صديقي» فى منطقة «عبود»، حتى الواحدة صباحاً لم نكن نعلم شيئاً عن زملائنا، نظير انقطاع الاتصالات منذ صباح الجمعة 28 يناير، ومع تسلل ضوء التاسع والعشرين «السبت» من شرفة صديقى الصغيرة، تنسمت عبق الحرية، عادت «الاتصالات»، وعلمنا وقتها أن الصديق «إسلام جبارة» أصيب برصاصة خرطوش فى جنبه الأيمن، كان الميدان فى 29 يناير يستقبل «موجات بشرية هادرة» من جميع مداخله، الخيام لم تنصب بعد، لكن سقوط الشهداء المتواصل، عزز من قيمة البقاء احتراماً لأرواحهم الطاهرة، فى المساء كانت الشائعات عن إمكانية اقتحام الميدان تضرب جميع الأرجاء، وأمام مبنى الجامعة العربية، كان يجلس شاب ذو بشرة سمراء، تدور عيناه المخضبة بالدموع، وينطق فمه بـ «عبارة» ممهورة بالأسى «فين صاحبي.. صاحبى مات»، هذا المشهد هو الأقسى فيما قابلته طوال 18 يوماً قضيتها داخل الميدان، ربت على كتفه، وقلت له «عايز تروح فين؟» فرد قائلاً: «مش عارف أعمل إيه؟»، طيب أقول إيه لوالدته؟».
إحنا كنا مع بعض عند وزارة الداخلية، وفجأة وقع، وأنا تعرضت لإغماء، وقفت لقيت نفسى هنا، يسترسل الشاب فى هذيانه «هو أنا رقمى كام؟»، وبيتنا فين؟، تدخل شاب فى الثلاثين من عمره بعد دخولى فى حالة بكاء شديدة، وقال لى «سيبوه أنا هوصله».
اتصل الليل بالنهار داخل ميدان التحرير، معالم المدينة الفاضلة تجلت فى عدم طرح الأسئلة التقليدية، انت مين؟، مسلم ولا مسيحي؟، شغال فين؟ متزوج ولا لأ؟.. كل ما كان يشغل الثوار المعتصمون بالميدان هو تحقيق المطلب الأوحد «سقوط النظام».. طوال النهار داخل الميدان تمر الأوقات مصحوبة بالترقب، ويغلب عليها طابع «الهتافات» الخلابة، أو الرسومات الساخرة «الساحرة» أو التعليقات المضحكة التى أبكت العالم، بينما يتسلل القلق مع الغروب، تدور التساؤلات «يا ترى بكره هيبقى فيه إيه»، هيرحل ولا هنعتقل كلنا»؟
الخطاب الثانى كان لحظة فارقة فى مستقبل الثورة المصرية، على مقهى «افترايث» توجه العشرات للاستماع للبيان الثانى من الرئيس «مبارك» آنذاك، دغدغ الرجل مشاعر الجماهير بعبارته «سأموت فى هذا الوطن، وليكتب التاريخ ما لنا وما علينا»، امرأة فى عقدها الخامس من بين المعتصمين، سالت دموعها وصاحت فينا قائلة «كفاية كده حرام عليكم» دب الانقسام فى الميدان، غادر الآلاف، لكن السماء كتبت «حفظ الثورة» حتى نهايتها، تورط فلول الوطنى فى موقعة الجمل صباح الأربعاء، فى ذلك الوقت كنت قد أنفقت جميع «الفلوس» التى بحوذتي، لم يعد معى جنيه، مع أذان الظهر، دون أن أدرى أن «موقعة دامية» ستحدث فى الميدان، قلت لأصدقائى سأذهب إلى حلوان لأقترض 100 جنيه من أحد أصدقائى، وعند موقف عبدالمنعم رياض، عاينت سيلاً هادراً من البشر يهتف «يا مبارك يا طيار.. اوعى تسيبها تولع نار»، شعرت بالقلق، بعد تزايد أعدادهم وخروجهم المفاجئ من جميع الاتجاهات فى مسار واحد ناحية الميدان.
قلت لأحدهم وكان شاباً تبدو على وجهه علامات البلطجة، يا عمى ماشى اهتف لـ «مبارك» بس مش حرام دم الشهداء اللى جرى علشان الحرية.. هدأ قليلاً ثم قال والله معاك حق»، ثم واصل هتافه متجهاً مع زمرته.
حالة غليان انتابت الثوار عقب الإعلان عن خطاب ثالث.. انقسم الميدان بعد السيطرة على مجلس الشعب على آلية التصعيد، هل الذهاب إلى ماسبيرو؟ أم محاصرة قصر العروبة.. وقتها شرعت بعض الفضائيات فى التخويف من التوجه ناحية القصر، قبيل إعلان عن موعد الخطاب الأخير، ارتأى الثوار الانتظار لحين الاستماع إليه.. جاء صادماً كالعادة استقبلوه بالأحذية، وكاد هتاف «ارحل» أن يقتلع جدران شارع طلعت حرب.. لم ينتظر الثوار إلى صباح الجمعة «11 فبراير»، انقسموا إلى مجموعتين أحدهما فضلت حصار «ماسبيرو» والأخرى اتجهت إلى «القصر»، 11 فبراير لم أتوقع مطلقاً تنحى «المخلوع»، صليت فى العباسية، وانضممت إلى مسيرة متجهة إلى القصر، هنالك كانت مجموعات من ميدان روكسي، تطالب بالاستقرار وإعطاء مهلة لـ «مبارك» 6 أشهر على أن يسلم بعدها السلطة عبر انتخاب حر مباشر، المشادات بيننا وبينهم بلغت مداها، ومع أذان العصر، انضمت مسيرات أخرى قادمة من الميدان، ومعها الخيام التى ستعلن عن اعتصام مفتوح لحين الرحيل.. قبيل أذان المغرب بقليل، عدت مع إحدى صديقاتى متجهاً إلى محطة مترو كوبرى القبة، متجهاً إلى الميدان لاستطلاع ما استجد من أنباء، فجأة تحولت المنطقة الساكنة إلى فرح شعبى «زغاريد» وأعلام، قالت الصديقة فيه إيه، قلت لها «معرفش»، استطردت قائلة «يا بنى اسأل انت مش صحفي».. توجهت إلى شاب يجهز سيارته، سألته «هو فيه إيه»، فابتسم قائلاً «يا عم ألف مبروك حسنى مبارك مشي». قلت له: يا عم الله يخليك متهزرش» فاستدرك قائلاً «انت مش مصدقني» طيب ادخل المحل ده هتلاقى عمر سليمان بيقول بيان التنحي»، وقد كان، تمنيت وقتها لو أن لى أجنحة تحملنى إلى التحرير فى جزء من الثانية.
منطقة وسط البلد تحولت إلى «بيت كبير» يجمع كل المصريين، الجميع يتبادل التهنئة والأمنيات الكامنة تطفو على السطح، كل بحسب رغبته، مجموعات شبابية تتقاسم الفرحة، وتباين آمالها بعضهم يردد عبارة «خلاص هنشتغل»، والآخر «أخيراً هنتجوز»، وثالث «الحمد لله مفيش تعذيب تاني»، سجدت لله شكراً أمام تمثال طلعت حرب، ودخلت فى نوبة بكاء بعد سيطرة رائعة شادية «يا حبيبتى يا مصر» على الميدان، وكأنها المرة الأولى التى تلاقى فيها كلمات الأغنية الخالدة مع الأفئدة، وعدت صباح السبت إلى «قريتي» محملاً بالفخر والأمنيات.
فى ذكرى الثورة، يتبخر الحلم، يتحول المشهد، تضيع «قدسية الميدان»، يتوحش الفساد، تزدهر الحلول التقليدية وتبقى ذكريات المدينة الفاضلة باعثة على استكمال الثورة.