عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

اغتيال آثار مصر تحت سمع وبصر الحكومة

بوابة الوفد الإلكترونية

مسلسل الجرائم التي ترتكب في حق تاريخ مصر، لا يزال مستمراً متمثلاً في هدم المباني والأبنية الأثرية، فمنذ أشهر قليلة هدمت الأجهزة التنفيذية

منزل «المهندسين» الأثري بالدرب الأحمر، وتأثر منزل «الرزاز» بعد إزالة المبني المجاور له، وبيوت أثرية أخري لم يتبق منها سوي أطلال، وهذا الإهمال والتدمير لآثارنا وتراثنا ليس النهاية، فالحلقات لا تزال مستمرة، فهناك منزل «مدكور» الأثري الذي تعرض أحد مداخله إلي حريق متعمد عام 2011 بغرض هدمه، بزعم تشكيله خطورة داهمة علي حياة سكانها، وبالفعل ينتظر منزل «مدكور» تنفيذ عملية الهدم دون النظر للقيمة التاريخية والمعمارية لهذا المبني، وتكرار هذا السيناريو ليكشف حجم المعاناة التي تعيشها 42 أسرة مهددين بالتشرد والطرد، وكم الإهمال الحكومي، واستهانة مسئولى «الآثار» العاجزين عن المتابعة والصيانة المستمرة لهذا الإرث التاريخي، الذي يخضع بعضه لـ «الأوقاف» ما يعد معه الأمر وكأنه مؤامرة بين مسئولي الآثار والفساد في قطاع المحليات، فعمليات الترميم والصيانة غائبة عن أذهانهم، ما يعرض آثارنا التاريخية للضياع والانهيار في أي لحظة.

ما مسئولية وزارة الآثار في الحفاظ علي تلك الآثار وتجديدها وترميمها؟.. وهل سننتظر حتي تغيير ملامح هذه الآثار وتدميرها أو تهدمها وبالتالي نفقد جزءاً من تاريخنا العريق؟

حيلة جديدة لجأت إليها الحكومة للخلاص من صداع المطالبين بإنقاذ «بيت مدكور» بالدرب الأحمر من الهدم، حيث قرر محافظ القاهرة جلال سعيد، تأجيل هدم المنزل لمدة شهر، وقال للمسئولين عن حملة إنقاذ القاهرة التاريخية: «تفاوضوا مع صاحبة البيت ولموا فلوس ورمموه»، وهو كلام غير مسئول وضد القانون، الهدف منه الخلاص من عبء المبني الأثري الذي يحتاج إلي ترميم وصيانة، دون النظر إلي قيمة المبني المرتبطة بأحداث وشخصيات سياسية ومعمارية، الذي تم حصره ضمن قوائم المباني ذات القيمة المتميزة.

بيت «مدكور باشا» أحد أكبر البيوت التاريخية بشارع التبانة بالدرب الأحمر، ويزيد عمر المنطقة علي 150 عاماً، حيث كان يمر به السلاطين والأمراء منذ العصر المملوكي، وبالتالي يعد جزءاً أصيلاً من تراث القاهرة القديمة، الذي سجله مبارك في الخطط التوفيقية، ورفضت تسجيله وزارة الآثار في عام 2011، بحجة عدم أهميته، الأمر الذي شجع هذه الأيام علي هدمه، بعدما طالته يد الإهمال لأسباب عديدة، يرجعها البعض لمحافظة القاهرة، وآخرون يلقون باللوم علي وزارة الآثار، التي تتبعها هذه المباني الأثرية.

ووفقاً للقانون رقم 117 لسنة 1983 بشأن حماية الآثار، يعتبر أي عقار أو منقول ذا قيمة تاريخية أو علمية أو فنية أو أدبية «أثراً».

وقد حصلت «الوفد» علي مستندات تؤكد الطابع التاريخي لـ «بيت مدكور» وتطالب بوقف أعمال الهدم، كما رصدنا الواقع السيئ الذي تعيشه هذه المباني الأثرية في المنطقة، منها مسجد «الطنبغا الماردانى» الذي يعد من أهم المساجد في مصر والعالم، ويجاوره ضريح «محمد أبوالنور»، وزاوية «جاويش باشا»، وسبيل «أبواليوسفين»، وكلها أبنية أثرية تعاني الإهمال وكادت معالمها تزول نتيجة عدم الصيانة والمتابعة الدورية لها من قبل هيئة الآثار أو حتي المحليات.

بشارع التبانة بمنطقة الدرب الأحمر، شاهدنا «بيت مدكور» الذي تزيد مساحته علي 2200 متراً مربعاً، حيث يسكن في البيت 42 أسرة، بخلاف 10 ورش إنتاجية.

وكما يقول رضا فهمي محمد، 52 عاماً، أحد السكان: «هناك سيدة تدعي بأنها صاحبة الأرض تحاول إخراجنا من البيت وهدمه، لكننا تأكدنا من حي وسط القاهرة ومجلس الوزراء أن البيت مصنف طراز معماري مميز، وبالتالي لا تستطيع بيعه أو هدمه مثلما تعمدت تخريبه وإحراق واجهة البيت، لكي تسهل عملية الهدم بعدما تختفي معالمه الأثرية».. لافتاً إلي أن المنزل به 8 مداخل، وباب رئيسي وقواعد حديدية قوية، علي مساحة 2200 متر.

 

 

والتقط طرف الحديث محمد نسيم، لديه 3 أبناء، وهو صاحب ورشة أستورجي، وأحد سكان البيت، فيقول: «المبني جاء له 4 قرارات إزالة بها أخطاء كثيرة في وصف المكان، وبناء عليه توجهنا لمجلس الدولة لوقف تلك القرارات، وساعدنا في  اللجوء للمسئولين وجود تقرير مفوضي الدولة الذي أوصي بعدم الهدم وإيقاف قرار الإزالة الأخير، والصادر تحت رقم 305 لسنة 2011، وذلك لعدم قانونية قرار نائب محافظ القاهرة بالإزالة وأيضاً عدم تفويض المحافظ له في القرار، ورغم تعرض الواجهة للتدمير بسبب الحريق الذي تم بفعل فاعل، ناهيك عن الإهمال، إلا أن 80٪ من المبني مازال سليماً ويمكن ترميمه وبقاؤه أثراً».

ويتابع: «42 أسرة يسكنون البيت، وكانوا 20 أسرة في الخمسينيات والستينيات، وعرف وقتها بـ «بيت الباشا»، وكانت به دلائل أثرية كثيرة، اندثرت مع الوقت، بسبب عدم الاهتمام بها».

وقال أحمد بدران، صنايعي، ويعول 4 أبناء: «البيت خرج من لائحة البيوت الأثرية، بقرار متعمد في 201 للتمهيد لعملية هدمه».. مستنكراً استمرار محاولات هدم المباني الأثرية في القاهرة، مشدداً علي أن وزارة الآثار غير مهتمة بأحوال قاطني المباني الأثرية.

فيما أضاف محمد هاشم، أحد المتضررين: الحكومة تهددنا بإخلاء منازلنا بالقوة الجبرية، بعدما أصدرت قراراً أيام رئيس الوزراء الأسبق عصام شرف في عام 2011، برفع بيت مدكور من سجل المباني ذات الطراز المعماري الأصيل، ورفض المجلس الأعلي للآثار بتسجيل المبني ضمن الآثار في عام 2010، علي الرغم من أن المبني أثري ذو طراز معماري فريد، ومن ثم لابد من إنقاذه وليس هدمه، وترميمه حفاظاً علي حياة المواطنين.. ويتساءل: أي قوة يمكن أن تجبرنا علي ترك بيوتنا وأشغالنا وتشريد 42 أسرة في الشوارع؟

ويتابع: نحن مستعدون لمعاونة الجهات المعنية بمجهودنا علي ترميم الـ 20٪ فقط من الشروخ والتصدعات الموجودة بالجدار الخارجي للمنزل، لأننا لا يوجد لدينا سكن بديل نذهب إليه أو مال نستطيع به شراء مسكن آخر.. فأين نذهب؟

 

تخريب متعمد للآثار

وخلال جولتنا في منطقة الدرب الأحمر، وجدنا العديد من المساجد المهملة والمهجورة، حيث تتكدس المحلات التجارية التي تشغل مساحة كبيرة في كافة جوانب الأماكن الأثرية.

ضريح «محمد أبوالنور» الذي مازال مهجوراً تسكنه الحشرات والقوارض وأطفال الشوارع، أبوابه مفتوحة، وشبابيكه متوارية، وبالحديث مع سكان المنطقة عنه، قالوا لنا: إنه تعرض لسرقات عديدة بما كان يشغل منبره من الصدف، بخلاف القمامة الموجودة أمامه، وكأن ما يحدث تدمير وتخريب متعمد تلك الآثار.

أما مسجد «الصالح طلائع» بشارع الخيامية، فتنتشر بجواره محلات الأقمشة والمفروشات والخيام والسجاجيد أسفل الربع علي الجانبين في غياب تام عن أعين جهات المسئولين عن هذه الآثار.

كما وجدنا مسجداً مهجوراً يسمي مسجد «الجورشاني» وتنتشر أسفله محلات لتصنيع الأخشاب والأثاثات المنزلية ومعدات الجزارة، وتتم عمليات بيع البضائع في حرم المسجد.

ثم شاهدنا مسجد «المرآة» بنفس الشارع أيضاً، الذي تشغله العديد من الأكشاك المنتشرة بامتداد جدران المسجد التي تبيع المنتجات الخشبية وأدوات

السباكة والتصليح والشماسي والشيش المصنوع من الألومنيوم والبخور، وغيرها، واستغل الباعة ساحة المسجد في عرض بضائعهم وبيعها للمواطنين.

بينما مسجد «السيدة فاطمة الزهراء» بشارع أحمد ماهر باشا «تحت الربع سابقاً» وتحديداً بجوار مديرية أمن القاهرة، الذي وافقت هيئة الآثار علي ترميمه منذ وقوع زلزال عام 1992 وإلي الآن لم تبدأ عمليات الترميم، والغريب في الأمر هو انتشار محلات وورش تصنيع الأدوات المنزلية والألومنيوم والمنتجات الخشبية والخيام والجلود وأسرجة الخيول والجلود والمداخن وغيرها، تلاصق تماماً المسجد الأثري حتي كادت تغطي جميع جوانبه.

 

تراثى.. وقرار الهدم «غير قانوني»

الدكتورة سهير حواس، رئيس لجنة حصر المباني ذات القيمة المتميزة بالتنسيق الحضاري، رفضت هدم مبني «بيت مدكور» لسببين.. أولهما: أن هناك إجراءات فنية محددة للحفاظ علي المبني وترميمه، وبالتالي لا يجوز هدمه.

وتحفظت الدكتورة «سهير» علي صدور قرارات الإزالة لكونه غير منطقي أن تتصرف الحكومة في المباني دون أي اعتبار للقانون.

وأضافت الدكتورة «سهير» أن هذا المبني يرجع إلي القرن التاسع عشر، وهو يقع في نطاق القاهرة القديمة، بما يستوجب الأخذ في الاعتبار أسس الحماية الخاصة بتلك المنطقة الأثرية، وهو مسجل كـ «تراث معماري متميز».. كما ناشدت المسئولين بالدولة تجنب تكرار تجارب مؤلمة معاصرة، كما حدث في قصر «أندراوس» بالأقصر ومشروع أبراج القلعة ومشروع جراج رمسيس وغيرها، مؤكدة أن مصر فقدت الكثير من ثرواتها المعمارية المتميزة في السنوات الأخيرة، ويجب أن يتوقف هذا النزيف.

 

محاسبة المقصرين

يقول الدكتور مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، مستشار أمين عام المجلس الأعلي للآثار سابقاً: إن هدم المباني الأثرية يعد جريمة كبري في حق الآثار التاريخية، واصفاً ذلك بالمهزلة، ونرفض تماماً العبث بتاريخنا العريق، لأنه أمر لا يليق حضارياً، وبالتالي يجب النظر خارج الأمور التقليدية، والحفاظ علي التراث الحضاري من التخريب والزوال.. مطالباً بضرورة محاسبة المقصرين في عملهم.

ووجه الدكتور «الكسباني» رسالة إلي كل مسئول في الدولة: «اتقوا الله في ثروات مصر التاريخية، واهتموا بالتراث، الذي يتعرض للإهمال كل يوم دون الانتباه لتاريخ الحقبة الأثرية».

وأوضح أن 90٪ من قرارات هدم المنازل والأبنية الأثرية تأتي كناتج عن عدم رغبة الجهات المعنية في تحمل مسئولية هذه الأماكن، ما يدفع إلي اتخاذ القرار الأسهل وهو هدم هذه المنازل من أساسها كبديل عن تحمل مسئولية توفير أماكن أخري لقاطني هذه المنازل، وبالتالي ستخرج منطقة القاهرة عن قائمة اليونسكو للتراث العالمي بدل ما يتحملوا مسئولية ترميمها والمحافظة عليها.

لافتاً إلي أنه ينبغي أن يخضع كل ما يتعلق بالتراث لجهة واحدة، وهي وزارة الآثار، بما في ذلك المخطوطات التي تتبع وزارة الثقافة، وبعضها يخضع للأوقاف، كما يستلزم وضع رؤية جديدة لوزارة الآثار، واعتبارها وزارة اقتصادية، وليست خدمية، وإبعاد المحليات والمحافظات عن الاختصاصات التي تهدد العديد من تراثنا العريق.

 

الترميم هو الحل

وحول حماية الآثار وتأمينها وصيانتها من الأخطار المتوقعة، أكد الدكتور إبراهيم النواوي، أستاذ الآثار المصرية كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار سابقاً: إن الأخطار التي تهدد الآثار نوعان، وهما الأخطار الطبيعية والأخطار البشرية.. فالبشرية تتلخص في إساءة استخدام المنشأة والحرائق والأسواق، وبعض الحرف والازدحام المروري والسرقة والترميم الخاطئ والحفائر الخاطئة والمعارض وعدم وعي المواطنين والزيارات الكثيفة للأثر.. أما عن الأخطار الطبيعية فهي الرياح والعواصف الرملية والزلازل واختلاف درجات الحرارة والرطوبة والصرف الصحي والمياه الجوفية والأملاح والأمطار.

وطالب بضرورة إجراء الصيانة والترميم اللازم والفوري للمباني الأثرية التي تحتاج لذلك كل فترة لحمايتها من الضياع والانهيار، مع توفير الحراسة الكافية المدربة علي الأسلوب التقني الحديث من قبل شرطة الآثار منعاً لحدوث أي حالات تعد علي الأثر، فضلاً عن القيام بعمليات تدريب للأثريين وإخصائيي الترميم لحماية كافة المناطق الأثرية المفتوحة أو الكلاسيكية المصرية بأنواعها المختلفة.

وأوضح إلي أهمية إعداد مناطق أثرية جديدة في أماكن متميزة حتي تكون مصدر جذب جديد للسياحة، بما يحقق عائداً مادياً مجزياً للدولة، وأيضاً يجب التسجيل والتوثيق الإداري لها، بالإضافة لوضعها في مخازن متحفية حفاظاً علي الأثر لحين تجديده أو ترميمه.

كما أشار إلي أهمية توفير البيئة الصالحة التي لا تضر بالأثر، وهذا يتطلب عدم السماح بتشغيل المصانع الضخمة ذات الكثافة العمالية لما ينتج عنها من أبخرة وغازات ملوثة تؤثر بالسلب علي الأماكن الأثرية المكشوفة أمثال المباني والمعابد التاريخية والأهرامات، بخلاف الصيانة الدورية لكافة المناطق الأثرية.