رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ثلاث معضلات مستعصية

انغمست خلال العقود الأربعة الأخيرة في قلب و(دهاليز) ثلاثة عوالم ثقافية - سياسية - تاريخية: أولاً، عالم الثقافة الغربية بتاريخه وفلسفاته وآدابه وإنجازاته وواقعه الراهن.. وثانياً:

عالم المجتمعات الناطقة باللغة العربية بتاريخه وتقاليده وتراثه الديني وفرقه ومذاهبه وآدابه وتاريخه المعاصر وواقعه الآني.. وثالثاً وأخيراً: العالم اليهودي، وهو ما تضمن رحلة عارمة في أودية ودهاليز النصوص اليهودية (التوراة وباقي أسفار الكتاب المقدس والمشنة والغمارة) وتاريخ اليهود بوجه عام، وتاريخ يهود ألمانيا وأوروبا الشرقية بوجه خالص، وتاريخ مشروع دولة إسرائيل الحديثة منذ حادثة دريفوس وحتي صدور قرار تقسيم فلسطين التاريخية في نوفمبر 7491، وأخيراً دولة إسرائيل ذاتها منذ مايو 8491.

وقد جعلني الخوض في تلك العوالم الثلاثة أرصد ثلاث معضلات تحتاج من مفكري ومثقفي ودارسي عالمنا اليوم الدراسة والفحص، ثم تقديم الحلول وسبل العلاج.

المعضلة الأولي تخص مجتمعات الحضارة الغربية وبالتحديد المجتمعات الأوروبية ومجتمعات الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وتتمثل هذه المعضلة في ذلك التناقض الواضح بين الدفاع المستميت لهذه المجتمعات عن مصالحها، وبين عدم دفاعها عن قيامها إلا داخل حدودها الجغرافية. فبينما يدافع المجتمع الأمريكي (مثلاً) عن مصالحه بضراوة، ويدافع عن أنساقه القيمية داخل مجتمعه أيضاً بضراوة، إلا أننا نجده يقبل (خارج حدوده الجغرافية) بكل ما يعارض ويناقض أنساقه القيمية. ومثال واحد هنا يمكن أن يغني عن آلاف الأمثلة، فالمجتمع الأمريكي الذي يحاسب قادته السياسيين علي الكبيرة والصغيرة من الأخطاء والهفوات، هو الذي يتعامل (خارجياً) مع أنظمة للحكم تدوس بأقدامها كل المبادئ والقيم التي طورتها مسيرة التقدم الإنساني، فالمجتمع الأمريكي المعني بحقوق الإنسان وحقوق المرأة والشفافية والمساءلة ليست عنده أية مشكلة أن يكون حكام أنصارهم في بلدان مثل السعودية ومصر وغيرهما ممن ينتهكون تلك القيم كل يوم ألف مرة. هذا التناقض (في اعتقادي) هو مصدر الكراهية الشديدة التي تكنها معظم الشعوب العربية لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية ولغيرها من الدول الغربية. وقد يكون هذا التناقض (في يوم من الأيام) مصدر تهديد كبير لوجود الحضارة الغربية ذاتها.

أما المعضلة الثانية فتخص يهود عالمنا المعاصر، فرغم تسليم كاتب هذه السطور بصعوبة تجربتهم الإنسانية خلال القرنين الماضيين وما واجهوه من صعوبات واضطهاد وجرائم كبري، وأيضاً رغم تسليمي بأن اضطهادهم فعل (بفتح كل الحروف وبتشديد العين) قدراتهم وأوجه كفاءتهم وفجر (بفتح كل الحروف وبتشديد الجيم) طاقات رائعة بين أبناء وبنات الجماعات اليهودية في شتي بلدان العالم، ورغم تسليمي بإنجازاتهم الكبيرة في سائر المجالات، إلا أنني أري أن تجربتهم التاريخية قد زودتهم بسمة كانت وسيلة بقاء وتفوق، ولكنها (أي هذه السمة) أصبحت سبب وجودهم في مأزق تاريخي كبير. وأعني هنا (تراث ومحصول التخوف اليهودي). ورغم تفهمي لهذا التخوف التاريخي أو تراث التخوف، فإن ذلك لا يمنعني أن أري أن أحد العناصر الرئيسة التي تحول اليوم بين اليهود وبين وجود حالة سلام حقيقي بينهم وبين شعوب المنطقة التي يريدون الاستقرار بها. فإسرائيل وهي تتوخي أن تصل إلي تسوية مع محيطها الجغرافي، فإنها (بفعل تراث التخوف اليهودي) تتمسك بحصولها علي كل أو معظم

ما تريد، لكي تكون في مأمن من تخوفاتها التاريخية. ومن البديهي أن من يريد أن يحصل من خلال المفوضات علي كل ما يريد، فإنه لا يحصل علي أي شيء مما يريد. وقد عبرت جولدا مائير ذات يوم (في سنة 3791) علي ما أقصده هنا عندما قالت لهنري كيسنجر إنها عندما تطلب شيئاً من الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها تشعر بغضب عارم إذا حصلت علي 09٪ فقط مما طلبته!

وأما المعضلة الثالثة والأخيرة فتخص شعوب الشرق الأوسط الناطقة باللغة العربية، فثقافة وتراث وتقاليد هذه الشعوب تقوم علي عدة ركائز من بينها الفخر الشديد بالذات وبالسلف وبالتراث والتقاليد، وهو فخر مشوب في الغالب بمبالغات تفوق كل الحدود، ويكفي أن يستمع المراقب لعشرات القصائد مما يسمي بالشعر النبطي أي الشعر العامي الذي يكتبه شعراء من الجزيرة العربية لكي يدرك بل ويري تلك المبالغات الغريبة والعجيبة في مدح الذات والتفاخر والتغني بأمجاد الماضي والحاضر (وجلها أمجاد وهمية، أي متخيلة). ولكن في مواجهة هذا التفاخر فإن شعوب هذه المنطقة تعرف (بلا شك) أن إنجازاتها ومساهماتها في مسيرة العلم والتقدم المعاصرين هي مجرد «صفر كبير». فمساهمات العرب المعاصرين في عوالم الطب والصيدلة والهندسة وتكنولوجيا الاتصالات والفضاء وصناعة السلاح وسائر مجالات البحث العلمي والتكنولوجيا هي (بكل الموضوعية) «معدومة». فبينما يتفاخر العربي طول الوقت بأمجاد الماضي والحاضر وبمزاياه وسجياه وبطولاته، فإنه يدرك يقيناً أنه ومجتمعاته تشتري كل ثمار التقدم الإنساني دون أن تشارك في صنعها، ويخلق ذلك التناقض بين ميل فطري (مبالغ فيه) للتفاخر وإدراك في نفس الوقت لتواضع (بل وانعدام) مساهماته في مسيرة التقدم، هذا التناقض يخلق حالة مرضية قوامها في الظاهر شعور بالعلو والسمو والتفوق، وفي الباطن بالإهانة والدونية. وهي حالة كما يمكن أن تفرز ألواناً من التعصب والعنف والإرهاب والإيمان (الجالب لسخرية البشرية) بتآمر «الآخرين» ضده(!!)، فإنها أيضاً تفرز حالة التضاد مع الإنسانية والواقع، وتباعد بين شعوبها وبين إمكانية تسوية المشكلات الكبري وأيضاً تباعد بينهم وبين إمكانية لحاقهم بمسيرة التقدم الإنساني.