رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الكبار يعتذرون

 

من أروع الصفات التى تميز عقلاء القوم وأصحاب الرأى منهم، صفة الاعتذار عند إدراك الخطأ، اعتذار الشجعان، اعتذار المقدرين للمسئولية والمحبين للآخر غير الدائرين فى محراب الذات تعظيماً وتقديساً وتمجيداً.

ويقص علينا القرآن من نماذج هذا الاعتذار نوعين، أحدهما يحبه الله ويحمده لعبده، وذلك مثل اعتذار موسى عليه السلام عندما ذكّره فرعون بأنه هو الذى رباه فى بيته وأفاض عليه من خيره وتجاوز عن قتله للمصرى بطريق الخطأ، فرد موسى عليه السلام معتذراً عن هذا القتل الخطأ بقوله: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ، لم يتكبر، ولم ينكر، وإنما عرف الخطأ فاعتذر عنه، وهو ما قصه القرآن فى موضع آخر, حيث قال قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (القصص16-17)
ثم يقص علينا القرآن مشهداً آخر، لنبى كريم ذي مكانة كريمة، وهو نبى الله نوح عليه السلام، عندما توسل إلى ربه لإنقاذ ابنه، فعاتبه الله بقوله قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وهنا يبادر نوح عليه السلام بالاعتذار عن هذا الخطأ فيقول قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ. (هود 46-47)
والعقل عندما يلتقط ذاك المشهد، ثم يعرضه على القلب، يجد رقة فى القلب تذيب الضجر، فهو لم يسأل سؤالاً غير مشروع، وإنما تدفعه الأبوة ويسوقه الحنين وتشتعل فى نفسه الحسرات على مصير ابنه، ولكنه سلم التسليم الكامل لإرادة الله، ولما علم أن سؤاله على غير مراد الله بادر بالاعتذار السريع والتوبة إلى الله إنما بحق أخلاق الأنبياء، أخلاق الكبار، الذين يعتذرون بكل شجاعة وروعة وصبر.
ثم ينتقل القرآن إلى مشهد آخر، مشهد ذاك النبى الكريم الذى ترك قومه بائساً فالتهمه الحوت وهو مُليم، فتذكر العزيمة والصبر اللذين هما من أخلاق الأنبياء، تذكر أنه تعجل ببشريته مراد الله، وأن الواجب عليه الصبر على قومه بمثل ما صبر نوح وأولو العزم من الرسل، تذكر كل ذلك فى بطن الحوت، فبادر بالاعتذار والتوبة والاعتراف بالخطأ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ.
وباستقراء هذه النماذج التى قصها علينا القرآن من ذاك النوع الأول نجد أن من أعظم الصفات التى تمتع بها الأنبياء صفة الاعتذار عند إدراك أقل خطأ، وأقل ظلم، وأقل لمم، إنها أخلاق كريمة، ساقها رب العزة سبحانه ليقدم لنا الأسوة والقدوة فى هؤلاء الأنبياء الذين لا يجدون أدنى حرج فى الاعتذار إذا ما أخطئوا، بل قد نجد فى السنة النبوية ما ننوء بحصره فى مثل هذا

المقال، أما النوع الثانى من الاعتذار، فهو اعتذار المنافقين، اعتذار أرباب المصالح وذوى القلوب المريضة، والقرآن الكريم أيضاً لا يفوته أن يحذرنا من هذا النوع، فساق نبئاً عنهم وعن ضلالهم وفساد منطقهم وكذب اعتذارهم فيقول «وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65 لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ» (التوبة 65-66).
هؤلاء لم يقبل الله لهم اعتذارا لأنهم لووا عنق الحقائق، زيفوا الأمور، أوّلو المتشابهات بحسب المصالح والأهواء، فلم يبصروا سوى ذواتهم، ولم يُصلّوا إلا فى محرابها، ولم يسبحوا سوى بحمدها.
ثم يفضحهم القرآن أيضاً فى موضع آخر، ليكشف زيف اعتذارهم، وكذب عباراتهم، ليفضح سرائرهم ويجليها لرسوله الكريم، فيقول له يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة 94)
فهولاء الذين نافقوا، الذين داروا مع مصالحهم وأهوائهم وجوداً وعدماً، لن يُقبل منهم اعتذار، وهو درس ساقه القرآن الكريم لكل ذى عقل كى يميز الغث من الثمين، وليميز الخبيث من الطيب، وليتبين حقيقة القول.
إن الاعتذار من النوع الأول، الاعتذار الصادق والجاد، هو اعتذار الشجعان، اعتذار الرجال بحق الذين يصنعون التاريخ، فماذا لو كان الاعتذار هو خلقنا، فعندما نخطئ نبادر بالاعتذار، فهو لن يهدر من قيمة الإنسان أبداً، بل على النقيض تماماً، إنه يرفع من قدر المعتذر ويُعلى من شأنه ويُنمى قدره لأنه جاء معتذراً عند إدراكه لخطئه، فهل نسترجع هذه الأخلاق، فهل يعتذر المخطئ لمن أخطأ فى حقه ليسود الأمن الاجتماعى وتنمو وشائج المحبة والترابط فى مجتمع باتت الأمراض الأخلاقية تغذيه من كل جانب.
إن ثقافة الاعتذار من شيم الكبار بحق، ومن شيم الرجال بحق، فليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ولنلتمس لبعض الأعذار، وليعتذر مخطئُناً وليقبل صاحب الحق، فتلك هى أخلاق الرجال، فاعتبروا يا أولى الأبصار.