رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عودة الروح

شَهِدت دورة (توعيةٍ سياسية) قام بها بعض النشطاء الليبراليين المستقلين في إحدى عشوائيات الإسكندرية، شرحوا فيها لسكانها مبادئ النظم السياسية المختلفة، والفرق بين الدولة المدنية والدولة الدينية، وخطورة (الدولة الدينية) على مستقبل الناس ومستقبل أبنائهم،

وسمحوا لي مشكورين بالتعقيب على كثيرٍ مما حمله كلامهم من أخطاء ومغالطاتٍ من وجهة نظري، ثم حمل (النشطاء) حقائبهم ورحلوا. وهممت أنا أيضاً بالانصراف، فما كان من أحد الحضور سوى أن تقدم إليَّ بـ(روشتة) طبية، مناشداً إياي أن أساعده في صرف الدواء الموصوف لوالدته المريضة، لأن ثمنه يربو على السبعين جنيهاً، مع كونه يعول خمسةً من الأبناء وأمَّهم، وأمَّ أمِّهم، بالإضافة إلى والدته. وما إن أبديت اهتماماً بالأمر، ورغبةً في مساعدة الرجل حتى التف حولي جمعٌ من الأهالي، وكأني محافظ الإسكندرية نفسه، كلٌّ يبثُّ همَّه ويحمل شكواه، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن طلب مني المساعدة في القضاء على باعة المخدرات الذين انتشروا في منطقته كسرطانٍ غادر، وصاروا يزاولون تجارتهم الآثمة على الملأ، وفي وضح النهار.

كان المشهد (سرياليًّا) بالنسبة إليّ: ها نحن نروِج خلافاتنا ومخاوفنا بين مَن يُفترض أن ثورتنا قد قامت من أجلهم، ولهم، ونحن في واد، وهم في وادٍ آخر مختلفٍ تمام الاختلاف. هذا مع يقيني أن هذه الأوضاع المتردية كلَّها هي جزءٌ من ميراثٍ ثقيلٍ ورَّثنا إياه النظام البائد، ليست مسئوليةَ الثورة ولا أبنائها كما يحاول بعض (فلوله) أن يروِّجوا لذلك بدورهم، خاصةً وأن (الثوار) أنفسهم لا يحكمون البلاد، حتى نحكم عليهم بنجاحٍ أو فشل. ولكن يبقى السؤال: هل يعفينا هذا من أن نتحمل جزءاً من المسئولية عما يجري؟ الجواب قطعاً بالنفي.

 

أُدرك بالطبع أن إجراء انتخاباتٍ نزيهة تفرز ممثلين حقيقيين للشعب، وكتابة دستورٍ جديدٍ للبلاد يضمن حقوق المواطن الأساسية، ويحقق مطالب الثورة الرئيسة؛ يُعد خطوة  لابد منها للإصلاح المنشود، ولكنَّ النصوص وحدها لا تنتج إصلاحاً، ما لم تقترن بروحٍ وإرادةٍ تجعل من تلك النصوص المدوَّنة بعنايةٍ أمراً واقعاً وملموساً. كما أتفق تماماً مع من يرفض وصف أزمةَ الشعب المصريِ بأنها أزمة اقتصادٍ ولقمةِ عيشٍ فحسب، قبل أن تكون أزمةَ وعيٍ وإدراكٍ وضمير، ناتجةً عن الجهل والأمية الدينية والثقافية التي غمرتنا عن عمدٍ لعشرات السنين. ولكني أتحدث عن (روح الثورة) التي تفنَّن كثيرون في تبديدها طوال الأشهر الماضية، تلك الروح التي كانت اللجان الشعبية التي توفر الأمن والسلع الأساسية للفقراء من أبناء الوطن بأسعارها الحقيقية إحدى ثمارها، وكذلك تلك الموجات الكثيفة من الشباب الصغار الذي انتشر في شوارعنا يزيل القمامة، ويطلي الجدران والأرصفة، وينظِّم حركة المرور، وغير ذلك من المشاهد النبيلة التي وهبتنا الأمل في مستقبلٍ واعد، ثم اختفت تحت وطأة السياسة، والأيديولوجية، والمماطلة في تحقيق مطالب الثورة، حتى باتت كلُّ خطوةٍ صغيرةٍ تستدعي حشداً وجهداً هائلاً، يستنزف في الوقت نفسه من طاقة الشباب وحماستهم.

ولم تُسفر حماقات التوَّاقين والمشتاقين إلى عودة (الاستقرار) سوى عن عودةٍ

غير حميدةٍ إلى الانشغال بكرة القدم، وأخبار (الفنانين)، والمعارك الفكرية الصغيرة في مضامينها وأهدافها، وتفاصيل الحياة اليومية البائسة التي كنا نعيشها قبل الثورة. وإنني لأتساءل عن (عجلة الإنتاج) وهل دارت، وكيف دارت، علماً بأن إنتاجية العامل والموظف المصري كانت قد تدنَّت في العهد البائد إلى نصفٍ ساعةٍ في اليوم، وأن تلك العجلة كانت فارغةً من الهواء في حقيقة الأمر.

إن مشهد محاكمة وأركان حكمه قد أعاد الروح إلى الثورة المصرية، وأقنع الجميع بأن ما تشهده مصر الآن هو ثورة حقيقية، لا مجرد تغيير وجوه، مثلما كان بعضهم يأمل في توقف الأمر عند هذا الحد. واليوم قد رأيت بعض الشباب من جديدٍ في شوارعهم ومناطقهم ينظمون المرور، ويزيلون القمامة، مع أن تلك المهام ليست بوظيفتهم ولا واجبهم، ولابد أن يقترن هذا الجهد المشكور بمحاسبةٍ جادةٍ للذين يقصِّرون في أداء عملهم في المقام الأول، لكن ما يهم حقاً هو عودة الروح والوعي شيئاً فشيئاً.  

لقد بكيت مثل كثيرين عندما رأيت الجلادين في القفص، لا حزناً عليهم، بل عندما تذكرت بؤسي وأنا أصارع الموت تحت أقدام رفاقي من المتظاهرين المذعورين من هجوم الأمن في آخر شارع بورسعيد بالإسكندرية يوم الخامس والعشرين من يناير، ثم الضربات الموجعة والألفاظ النابية التي تلقيتها من أفراد الأمن المركزي حينما تمكنت من الوقوف على قدماي وحاولت الهرب، وما أحسست به يومئذٍ في آنٍ واحدٍ، وفي لحظةٍ واحدةٍ من خوفٍ وإقدام، وانكسارٍ وفخر، وتشككٍ وثقةٍ ، ومشاعر أخرى يعجز قلمي عن وصفها بالتحديد. لكنَّ الدموع تلك هذه المرة كانت مختلفة، لأنها مسحت كثيرًا من الأدران التي لحقت بنفسي في الشهر الماضية، وأعادت لها الإيمان بأن الله تعالى معنا، ولن يضيَّعنا. ورغم كلِّ هذا: فقد فعلنا الأسهل، لا أقول السهل، وبقي الأصعب، ولا أقول الصعب: أن نستكمل مسيرة التغيير، وأن ننقل الثورة وقيمها ومعانيها من الميادين إلى كل شارعٍ وبيت في مصر.