رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

سيد القمني و سالم عبد الجليل والمهمة المستحيلة



حاول كل من الدكتور سيد القمني والدكتور سالم عبد الجليل الانتقال بالجدل العام خطوة للأمام باتجاه الاعتراف بحق كل مواطن في التعبير عن رأيه من دون أن يتعرض للأذى، فسقطا سقوطا مروعا ،تجسد في تبادل السباب والاتهامات المخيفة التي حلت محل تظاهر بالتسامح وسعة الأفق دخل به الجانبان إلى الحوار وسرعان ما تبين أنه قناع رقيق لايحتمل حرارة المشاعر التي تغلي بها الصدور.

أراد القمني أن يقول إن القضايا الدينية مجالها القلب وليس العقل. بمعنى أن الدين إيمان وتسليم بحقائق تعلو على العقل. وأكثر من ذلك فهو يقول إن العقل العلمي لابد أن يتراجع  ،عند مناقشة القضايا الدينية ،ليترك للقلب حرية التسليم بما يخالف هذه المقولات، ولو ببحث عن مدلول لظاهر النصوص ينفذ به إلى ما يعجز العقل عن استيعابه.
لكنه بدا متخبطا عندما تعرض لأمور مثل «السماء»،التي زعم أن العلم ينكر وجودها. وأقول زعم لأن «السماء» في اللغة العربية ،كما يعلم هو وعبد الجليل ،تعني كل ما يعلو المرء ،وقد جاء في تفسير الشعراوي» وكل ما يعلوك ويظلك فهو سماء». والعلم لا يملك أن ينكر وجود ما يعلو الأرض من كواكب ونجوم وفضاء خارجي، ولا ينكر أن هذا كله بني بإحكام مذهل ،حتى مع التسليم بأنه على المستوى الكوني لا يوجد ما هو فوق وتحت ،وحتى مع التسليم بمقولات الهيولى ،فالإحكام المعجز هو الأصل.
لكن الرجلين تركا ما يمكن الاتفاق عليه وانزلقا نحو الصدام الذي نزل بهما إلى درك لا يليق بأمثالهما. فلماذا جرى ما جرى وشهدنا هذا الانزلاق إلى السباب والتكفير؟ لسببين:ذاتي وموضوعي. يعود السبب الذاتي، فيما لاحظت، إلى أن كلا الرجلين ركز على أمر غير معلن ،بل وربما كان أكثر أهمية في نظره مما يدور حوله الجدل.القمني ركز على الإيحاء لجمهوره بأن زمن التعنت السلفي انتهى وأن بوسع المتمرد عليه أن يقول ما يشاء غير آبه برد فعل المجتمع على اتساعه. وعبد الجليل أراد أن يثبت لجمهوره أن زمن محاكمات الضمير مستمر وأن لابس العمامة هو ممثل العقيدة المسلمة السنية التي يعبر الدستور المصري عن هيمنتها منذ 1923،وبالتالي فمن حقه كشف كل من يتجرأ على ثوابت هذه الأغلبية والتنديد به. أما الموضوعي فيرجع إلى أننا كمصريين، ونحن نضع ضوابط لحريات التعبير ،لم نكن معنيين أبدا بالحرية كقيمة ولا بالفرد كصاحب حق من الحقوق التي من بينها الحق في التعبير الحرعن المعتقد.لقد انصب اهتمام مشرعينا ،طوال الوقت ، على حماية السلام الاجتماعي ورسم حدود الهدنة بين الكتل التي يتألف منها المجتمع ،ولو على حساب الفرد.
وهكذا غلبت الموازنة بين حريات كتلة اجتماعية معينة في التعبير عن معتقداتها وبين ضرورات السلام الاجتماعي، على الموازنة بين حق المواطن الفرد في التعبير وبين الحفاظ على النظام الاجتماعي بتوازناته الحالية وعلى قيمه ومؤسساته. بتعبير آخر لم يهتم المشرع  ،ولم يهتم الرأي العام الذي يحكم قرارات المشرع ويوجهها، بصيانة الحقوق الفردية ومنها حريات الاعتقاد وما يتبعها من حرية التعبير عن هذا الاعتقاد، حتى وهو يضع القوانين المنظمة لهذه الحقوق الفردية ،لأنه وهو يصوغها كان مشغولا بالتوازنات بين الكتلة المسلمة السنية المهيمنة وبين الأقليات الدينية الأخرى ،فإذا نظر إلى الفرد

لم ينظر إليه ككائن في ذاته بل باعتباره ابن هذه الطائفة أو تلك.
وهذا يعيدني لكتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي « من تاريخ الإلحاد في الإسلام» الذي نشره عام 1945وإلى الفكرة الأساسية في الفصل الأول من هذا الكتاب وهو بعنوان «خصائص الروح العربية».يركز بدوي على سمتين يراهما أساسيتين في الروح العربية وهما:تغليب المعقول على المتخيل، وتغليب الجمعي على الفردي. وقد وجدت في كلام بدوي ما أكد اعتراضي، من زمان ،على مزاعم زكي نجيب محمود الاستشراقية في كتابه «الشرق الفنان» الذي يتصور العقل الشرقي غارقا في سبحات الخيال والعقل الغربي واقفا على أرض الواقع الصلبة.
وربما كان المعقول، بأكثر صوره وضوحا ،وهو المحسوس ،ربما كان هو ما يبحث عنه عبد الجليل ،ممثلا للروح العربية التي صاغتها القاهرة وبغداد ودمشق في القرون الوسطى ،عندما يريد أن تكون السماء القرآنية بناء يلمسه بيديه ويدخل الإنسان من بواباته ماشيا أو راكبا أو طائرا .وربما كان المتخيل هو ما يريده القمني ،ممثلا للروح المتوسطية التي ولدت في الإسكندرية القديمة،عندما يبحث للسماء القرآنية عن معنى أوسع من أن تحتويه الحواس أو يخضعه العقل لمعاييره. وبالتالي فيمكن للرجلين ،إن شاءا ،أن يتفقا على رأيين لاينكران وجود السماء من دون التصادم حتى بما يقوله العلم من أن زرقة السماء هي نتيجة لما يسمىRayleigh scatterأو حتى للإشارة إلى أن اللون بناء أو بنية أولحقيقة أن كل المواد هي بُنى ،يستوي في ذلك الحديد أو الضوء.
ونأتي إلى السمة الثانية للروح العربية ،كما أشار إليها بدوي:تغليب الجماعي على الفردي.وهذا الميل مسئول، كما أشرنا ،عن تركيز المشرّع عندنا على مصالح الكتل التي يتألف منها المجتمع وعن تجاهل حقوق الأفراد وحرياتهم.
فهل يستطيع رجلان مثل القمني وعبد الجليل إنجاز مهمة ثقيلة كهذه ؟مهمة زاغ منها المشرعون عبر الأجيال؟ مستحيل قطعا. هذا واجب الأحزاب والأحزاب ضعيفة ،و المجتمع المدني وهو مخترق ومضلل ،والجامعات ومراكز البحث ،وهي في وضع كارثي  ،والمثقفين وهم إما خائفون من السلفيين أو طامعون في ذهب المعز.
لكن..يبقى الأمل في مصر الجديدة التي نتمنى على الله أن نشهد ميلادها بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة.