رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

«لله يا زمري»

لا أعرف لماذا تلح علي أفكاري وتستأثر بها وبمشاعري تلك القصة الشعبية القديمة التي طالما تناولها الناس خاصة في الريف المصري عن رجل فقير ضرير ذي صوت رخيم بيده مزمار من البوص هما وسيلته لكسب العيش

وهو يتحسس بهما بيوت الموسرين فيقف ويشدو بصوته مواويله التي هي أحلامه وأمانيه ثم يلتمس راحة النفس بالنفخ في مزماره ويظل هكذا حتي يتحقق له مراده .. وذات يوم كان في بلد غريب فأخذ يتحسس مكانا ظنه بيتاً لأهل الثراء فأقام أمامه ينشد ويغني وطال العزف والرجاء دون جدوي وحتي أحس بأقدام تمر أمامه سأل: أليس في هذا البيت أحد فأجابه المارة ان هذا بيت لله وليس هذا ميعاد صلاة. عندها نهض الضرير الجائع الحالم بالعيش وقال وهو يحمل مزماره (لله يا زمري).
هذه الحكاية التي أراها من التراث المصري الأصيل ألحت علي عواطفي وكياني وفجرت كل عوامل الحزن والأسي. فالعبرة ليست بالأحداث التي وقعت للضرير الحالم الجائع المكافح طالبا لقمة العيش والأمان في الحياة علي طريقته التي لا قدرة له علي سواها.. لكني رأيتها فيَّ وفي الناس جميعا . رأيتها في مصر كلها. في شبابها في شعبها الغالب عليه الفقر والحزن والمرض والألم. رأيتها في ميدان التحرير. رأيتها في الحشود الهائلة الثائرة والتي خرجت عن بكرة أبيها ذات يوم حينما فجر لها شبابها الغض الطيب الكريم شعلة الثورة وأضاء الطريق الحالك السواد. خرج الشعب كله منذ قرابة عامين يهتف ويصرخ ويقف مطالبا بحقه في العيش الكريم والحرية الحقيقية والعدالة الاجتماعية التي لا تفرق بين مواطن وآخر. التحم عنصرا الأمة مسلم ومسيحي معا في بوتقة واحدة اعادت له ذكريات ثورة 1919 بزعيمها الفذ الخالد سعد زغلول وارتفعت فوق الأعناق العبارة الخالدة لمكرم عبيد باشا القبطي.. يحيا الهلال مع الصليب.. هذه هي الأمة المصرية. هذا هو الشعب المصري الأصيل في الميدان وفي كل ميادين مصر. الغناء كأنه اهازيج الطير في السماء والعزف كأنه ترانيم مزامير داوود عليه السلام. وتوقف الزمن. توقف الزمن لأيام معدودة لم تصل لعشرين يوما واشرأبت الدنيا. كل الدنيا تنظر في إكبار وإجلال لهذا الحدث المهيب ولهذا الشعب الأصيل الضارب في عمق التاريخ الإنساني يقوده شباب بكر واع عصري الفكر والروح والعلم ليفجر الثورة في 25 يناير 2011 بحسابات لم تكن تخطر علي بال الحكام الطغاة ولا أعوانهم الفاسدين الذين نهبوا مصر وباعوها لحسابهم الخاص وعاشوا وحدهم ومن يوالوهم في القصور والضياع يأكلون أموال الناس ظلما بينما غالبية الشعب الصبور تعيش علي الكفاف. ولما كانت دولة الظلم ساعة ودولة العدل إلي قيام الساعة، فقد زلزلت الثورة الشابة الأرض من تحت أقدام الطغاة الفاسدين. وحانت ساعة الفرحة والانتصار بعد طول انتظار. حانت ساعة الحصاد. الفرحة كانت أكبر من السيطرة عليها. لم يصدق الشعب المصري الطيب ان جلاديه اضحوا وراء القضبان بل لعلهم تأكدوا ان العيش الكريم في الطريق لا محالة وان الحرية الحقة اصبح في متناول ايديهم وان العدالة الاجتماعية التي طالما حلموا بها وغنوا لها علي مقربة. وان الديمقراطية التي لا تفرق بين مواطن وآخر علي الأبواب.
واذ بهم وهم في هذا الحلم الكبير. يخرج عليهم من يقول لهم بصوت بغيض كريه كأنه يجىء من قبو مظلم.. لا .. لا. حلمكم لن يكون بهذه السهولة. أملكم لن تنالوه بهذه البساطة او ربما السذاجة. البيت سيظل مقفولاً وستعودون للمواويل والمزامير ولن يفتح أحد ولن تعطوا شيئا . لقد

تربصنا بكم حتي رأيناكم فتحتم الطريق فأمسكناهم نحن وكبلناه بقيودنا ولن تستطيعوا ان تحققوا أحلامكم أو أي أمل لكم فلقد انتظرنا هذا اليوم طويلا لنحقق نحن احلامنا الخاصة وطموحنا الغلاب ولا يهمنا حلمكم ولا تهمونا انتم في شيء فابتعدوا عن الطريق.
عندها انطفأت الفرحة وعم الظلام من جديد واشتد سواده وخبأ النور في العيون والقلوب وإذ بالامل يضيع والحلم الكبير ينزوي واذ بالتخبط يسري في كيان الأمة ويقود اركانها ويتغلغل في أوصالها والأحداث تتوالي في اتجاه واحد لأهداف لم يخرج الشعب لها ولم يضح بدماء شبابه من أجلها ولا بالمصابين الكثر حبا وأملا في عيش كريم. لقد استولي فصيل واحد كان محظورا ومطمورا علي مقاليد الأمور وهو يعمل لحسابه فقط وليس لحساب الشعب. انه يقوض أركان الدولة القائمة ليقيم دولة أخري بحساباته هو . انه يرهب الشعب بميلشياته المسلحة وهو يغير ما يريد من قواعد ويضع ما يريد من قوانين دون التفات لمصلحة الوطن والمواطنين. إنما مصلحة منهجه هو لا غير. والجراح مفتوحة والدم ينزف والكوارث تتوالي ودولة القانون حائرة تناضل للبقاء والارواح تختنق بالحسرة والندم علي كل ما يحصل. عامان كاملان من المعاناة والضياع والخوف علي البلد. علي مصر المستباحة من قبل الذين لم يكن لهم من الأصل في المسألة أي حسبان. ماذا يقول الثوار؟ ماذا يقول هؤلاء الشباب الأبطال الذين فجروا الثورة؟ ماذا يقول شعب مصر الذي عضد الثورة وانطلق معها حاملا حلمه؟ هل يقول كل هؤلاء ما قاله الشيخ الضرير عازف المواويل.. لله يا زمري.. لله يا أملي . لله يا حلمي . لله يا بلدي. لله يا حياتي كلها. لله يا روح شهدائي. لله يا كوارث تنهال علي وطني من كل صوب وحدب. وتنتهي المسألة إلي المجهول.. أم ماذا؟ أيكرر هذا الشعب الحلم. أيكرر المحاولة من جديد بطريقة اكثر نضجا ووعيا وحرصا من الأخطار التي تترصده؟ أيفعلها مرة أخري ليحقق حلمه الضائع ورغبته الأكيدة في العيش الكريم والحرية الحقة والعدالة الإنسانية والديمقراطية الاجتماعية لكل أبناء الوطن؟ أيعود الشعب من جديد للغناء يرفع عقيرته بالمواويل يشق بها عنان السماء؟ يشدو علي مزماره من جديد؟ يصرخ فيه ليقول.. إني خدعت وسأعود ولن أخدع مرة أخري.. فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.. ربما.. ربما يكون.