عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عن الفعل المصري الناقص والجمل التي لا تكتمل..؟!

ليس في أمثالنا الشعبية التي كثيراً ما تصدق في التعبير عن همومنا وآمالنا وأحوالنا الحاضرة والماضية ما هو أكثر انطباقاً على حالنا المأساوي الآن من ذل الذي يقول «جات الحزينة تفرح، مالاقتش لها مطرح» ذلك لأنه يسمح بالكثير من التفسيرات والتأويلات التي أولها البكاء على سوء الحظ وميلة البخت والشؤوم الذي يحيق بكل فرصة تلوح للسعادة أو بشارة تنبئ عن لحظة قادمة للفرح.

وهو أيضاً مثل يوحي بأن صاحبته مصرية مجروحة سواء كانت أماً ثكلى أو زوجة ترملت أو ابنة تيتمت - من اللواتي تتزايد أعدادهن الآن - لكنهن في جميع الأحوال يشتركن في إصابتهن بفجيعة جديدة أو مصيبة لا تتوقف عن التهديد، وكأنه قدر مترصد وحظ من الشقاء المكتوب والتعاسة المحتومة رغم ما يفرضه ذلك من تفسير مأساوي مفاده أننا طوال تاريخنا قد كتب علينا - بأيدينا أو بأيدي غيرنا أو بهما معا - ليس نعيش باعتبارنا ضحايا لمجموعة تاريخية متكررة من الأفعال الناقصة والجمل المبتورة تتبعنا وتتعقبنا في كل الفترات والعصور منذ ثورتي القاهرة الأولى والثانية اللتين أظهرتا بسالة للشعب منقطع النظير والتفافا رائعا حول شيوخه وعلمائه وقادته ضد الفرنسيين الغزاة والمماليك المحتلين.
لكنهما لم تنجحا في تخليصنا منهم أو لم يكن ذلك مدرجاً في مشروعهما مع ما يحمله ذلك من علامات اندهاش وتساؤل كبيرة حول نوعية هذا الشعب وعقله ومدى اتساع دائرة تمرده وطاقة انتفاضاته وفهم رموزه للثورة آنذاك، حتى إنه كان كلما سقط مملوك قتيلاً وجىء بآخر بدلاً منه هتفوا مع تعليق رأسه على باب زويلة «ذهب الظالم وأتى المظلوم» دون أن يفكروا لحظة أن من بينهم من هو أقدر وأجدر وأحق كي ينصبوه عليهم بدلاً من هؤلاء المستجلبين المتجبرين الفاسدين، أو أنهم قد فكروا في ذلك لكن سرعان ما استبعدوا الفكرة لتكون النتيجة اكتفاءً بإزاحة ظالم وانتظاراً لأن يأتي آخر فتتم ازاحته من جديد، وبما يشبه أن يكون فعلاً ناقصاً للثورة أو عبارة لم تكتمل بالتغيير، وحتى من الناحية الاجتماعية حين بدأ الخديو اسماعيل - بعد ذلك - في تنفيذ مشروعه أو حلمه بتحضير مصر وإدراجها ضمن قائمة العالم الأوروبي الجديد الذي انبهر به، سرعان ما أنهكته الديون حتى أتت عليه وعلى صاحبه ليسلمنا الى المخالب الأجنبية الشرهة ويضعنا مكبلين في صندوق الدين ثم يتولى أمرنا الاحتلال في عهد «توفيق» بعد قمع أول فعل ثوري منظم قاده الزعيم أحمد عرابي موحداً تحت رايته فلاحين وعلماء ومشايخ ووزراء ومفكرين - مسلمين ومسيحيين - مصعدين مقاومتهم للقوات الانجليزية الغازية ورافعين صوتهم ضد طغيان الخديو لدرجة أنهم طالبوا علانية بعزله واتفقوا على ذلك وكادوا ينتصرون لولا عوامل كثيرة كان من بينها «الولس» - بلغة أهل مصر آنذاك - أو المؤامرة وخراب بعض الذمم التي باعت عرابي وخذلته حتى انتكست الثورة لتصبح فعلاً مصرياً ناقصاً وتضاف الى قائمة جمل التغيير التي لم تكتمل في تاريخنا ويبدأ خط الانهيار في الصعود وكأنه قدر!
لكن ثورة 1919 - التي اجتاحت الأمة المصرية بعد ذلك بحوالي احدى عشرة سنة - سرعان ما شبت كي تغير من ذلك الفهم الطوباوي والغيبي لانتكاس الثورة، ولتحول الاستسلام الشعبي المتشائم اليائس للمقدر عليه والمكتوب، الى فهم علمي حقيقي فعل التراكم الكمي للتمرد والاقتناع بحتمية تحوله الى ثورة حقيقية تجتاح كل المفاهيم القديمة دفعة واحدة بادئة من السياسة منادية بـ «الجلاء التام أو الموت الزؤام» وبالدين حين أضاءت ساحته حركات التجديد على يد جمال الدين الأفغاني وتلميذه الامام محمد عبده وبالاقتصاد حين بادر طلعت حرب بمشروعه أو بجملة مشاريعه لإعادة بناء وطن ببنك مصر وشركة الغزل والنسيج واستوديو مصر للسينما ومسرح الأزبكية» - الذي أسندت إدارته في مصر المتنورة المتسامحة المفتوحة للجميع الى خليل مطران اللبناني العربي المسيحي الماروني بعد الانعام عليه بلقب شاعر القطرين - وفرقة أنصار التمثيل والسينما وغيرها من الفرق المسرحية كي يضاء الوطن كله بشموع ساطعة ويرتفع على قامات عالية تؤسس نهضة غير مسبوقة في الدين والفكر والفن لا تعرف تحيزاً ولا تمييزاً ولا عنصرية ولا طائفية.
نهضة تحمل - أو تحملها - أسماء سامقة مثل سيد درويش وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم وبيرم التونسي وبديع خيري وأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد ومكرم عبيد ورمسيس ويصا وعريان سعد ورشيد رضا وجورج أبيض اللبناني ويوسف وهبي وزكي طليمات ونجيب الريحاني العراقي وأنور وجدي السوري وفاطمة رشدي وأحمد حسن الزيات وسلامة موسى وأم كلثوم والسنباطي وماري كويني، وكذلك يوسف جريس وحسن رشيد وأبو بكر خيرت - رواد الموسيقى السيمفونية والأوبرا - وعلى مصطفى مشرفة وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف ادريس وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود مختار وسيف وأدهم وانلي ومحمود سعيد وغيرهم في الأدب والفن التشكيلي دون ترتيب الأسماء، ولتصبح مصانع النسيج المصرية منافسة لمصانع محتلها الانجليزي في بلده، مثلما تحتل السينما المصرية - أو الفيلم التجاري المصري - المكانة الثانية بعد الولايات المتحدة الامريكية بأسماء كبيرة مصرية أو تمصرت، ويصبح ثاني مواردها المالية بعد القطن طويل التيلة الذي أجهز عليه لاحقا.
وعلي ضوء ثورة 1919 ونهضتها أيضاً تأسست الصحافة المصرية على يد أشقاء موارنة لبنانيين مثل سليم تقلا وجورجي زيدان وفاطمة روزاليوسف، مثلما امتلأ الوادي بمصانع وشركات لأسماء غير مصرية مثل الشوربجي وشملا والطرابيشي وسباهي

وعمر أفندي وصيدناوي إلى آخر تلك الأسماء اللامعة في صفحة المال والأعمال، والمدهش أن كل تلك النهضة وكل ذلك التقدم كانا يتمان ويكتملان تحت سمع وبصر ورقابة وتحدي المستعمر الانجليزي والعرش الملكي، وأيا ما كان اسم من يجلس عليه فقد كان اسم واحد من مفكري مصر وعقولها الجبارة كفيلاً بأن يهز ذلك العرش بقلمه وأن يقيمه ويقعده بصوته!
لكن «الحمل الطبيعي» بالثورة المصرية سرعان ما تم استعجاله والاسراع بحركة ولادته أو «توليده» ابتسارا على يد اصحاب حركة 23 يوليو - التي حولها الشعب برغبته واقتناعه لاحقا الى ثورة - وأعنى بذلك أنه لو لم تقم حركة يوليو هذه لقامت الثورة المصرية أيضاً في تاريخ لاحق ولكن بشكل أكبر صحة وأكثر اكتمالا ولكن بعد ان تنضج على نارها الشعبية الهادئة، لأن فتح بطن مصر واخراج جنين الثورة في ذلك التاريخ كجنين مبتسر - أو خديج لم تتم فترة حمله أو تكتمل في رحم الشعب - سرعان ما ظهر متجسداً فيما حدث بعد ذلك من استئثار بالسلطة وقهر للفكر وتحويل اجباري الى مسار سياسي واقتصادي تصور اصحابه أنه هو الأنسب والأسلم دون أخذ رأي الشعب أو استفتاء عقوله الواعية وخبراته المتمكنة عليه، الأمر الذي أسلمنا الى سقطات متكررة مثل التورط في حرب اليمين بقرار منفرد. والهزيمة الكبرى في 1967 كنتيجة حتمية للسيطرة والقهر وغيبة الديمقراطية وغياب حرية الرأي وفساد أهل الثقة وتهميش أهل الخبرة وسيطرة خلق النفاق وثقافة الخوف، الأمر الذي أدى الى انهيار مشاريع الأحلام الناصرية العظيمة وتداعي حجارتها بعد أن سكنت الرهبة القلوب وامتلأت المعتقلات وازدحمت بالمعارضين السجون، وهكذا تداعى مشروع ثورة الثالث والعشرين من يوليو الاقتصاد يوالعسكري حين تداعي مشروعها الانساني والاجتماعي رغم البنايات الضخمة والمؤسسات الشامخة فلم يسلم سوى السد العالي رحمة من الله بنا واشفاقا. وليصبح مشروع ثورة يوليو هو الآخر فعلاً ناقصاً وجملة مصرية لم يقدر لها أن تكتمل!
وحتى تزيد هذه الأفعال المصرية الناقصة فعلاً جديداً ويضاف الى قائمة الجمل الثورية التي لم تكتمل جملة اخرى، لا يلبث انتصار اكتوبر أن يسارع الى تصحيحها أو محاولة اكمالها بجدارة لولا ما حاق به هو الآخر بالاختراق أو بالثغرة - فيما يشبه أيضاً فعلاً ناقصاً او شبه جملة لم تكتمل، ثم حين تحول مشروع السادات لإعادة بناء مصر جديدة غنية مكتفية وناهضة الى مشروع استثماري «انفتاحي» واستهلاكي رخيص سرعان ما قلبت به موازين السياسة وموازين الحكم والفكر كي يصبح مقدمة طبيعية ومدخلا شرعياً لمشروع الافساد والفساد الكبير في عهد مبارك اللاحق. والذي بدأه بزواج مشبوه كريه الرائحة تم عقد قرانه في عهد سلفه بين السياسة والمال، ثم تحول الى ثلاثين سنة كاملة من غم وهم وظلم وقهر وجهل وتداع وانهيار في المأوي والمأكل، في الصحة وفي الأمن، في التعليم والاقتصاد، في الخلق وفي فهم وممارسة التدين، في النفور من العيش معا وكره المواطنة سوياً، في الرشوة التي تفشت وأصبحت حقا وفي المحسوبية التي صارت قاعدة والتمييز الذي صار معلناً والطائفية التي داوموا على اذكاء نارها، في السوقية التي انتشرت والابتذال الذي أصبح علامة، وفي الفن الذي ترخص والتعليم الذي انحط والثقافة التي شوهت والفكر الذي تميع، وقبل ذلك كله في افتقاد الطمأنينة وفقدان الأمن حتى دارت الدائرة التاريخ وحدث الانفجار العظيم بثورة الخامس والعشرين من يناير لكي تصبح مهددة هي الاخرى رغم صدقها وعظمتها بأن تصبح فعلاً ناقصاً وأن تتحول الى جملة يخشى عليها أن تلحق بسابقاتها ولا تكتمل!
دكتور أسامة أبو طالب
[email protected]