رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نجيب محفوظ بلاد النور والعجائب

عندما كتب الدكتور شكري عياد عبارة «أنسنة الدين» كان يقصد بها تحويل عباءة الروحانيات والأساطير الى مدلولات بشرية تقترب من العالم المادي الذي نعيشه ونحياه، وهذا الاتجاه القديم هو اتجاه حداثي فمنذ الاغريق وبدايات المسرح العالمي نجد أن الفن حاول تصوير القوى الطبيعية

من رياح وحروب وخصوبة وموت وجمال في صور إلهية لها صفات الألوهية والبشرية في آن واحد، وكان هذا بداية عالم الاسطورة السحري والمسرح، إذاً فالعالم الروحاني عالم يوحي بالأسرار والغموض وهو يحمل بداخله عوالم عدة تحفز المبدع على إسبار أغوارها وفك طلاسمها والدخول الى غياهب جوانحها.
وحين كتب نجيب محفوظ رواية «أولاد حارتنا» في سلسلة صحيفة الأهرام عام 1959 ثم نشرت عام 1962 قامت الدنيا ولم تقعد حتى يومنا هذا، انبرى مجموعة من رجال الدين والأزهر على رأسهم الدكتور الجليل محمد الغزالي ورفض نشر الرواية في مصر.
وإذا كان العديد من رجال الدين وبعض النقاد يرى أن الرواية رواية دينية تمس العقيدة وتتعرض للملحمة الكونية منذ بدء الخليقة وخلق آدم والصراع بينه وبين إبليس ثم قصة الخروج من الجنة وقابيل وهابيل ثم بعثة سيدنا موسى وعيسى ومحمد عليه وعليهما السلام فإن القارئ المتأني الواعي الدارس عليه ألا ينخدع بالتفسير السطحي والرمزي المباشر لهذا العمل، فالرواية في اطارها الأدبي رواية تحتمل «التأويل» و«ليس التفسير»، والتأويل هنا هو الدور الذي يلعبه القارئ تجاه النص، فكل قارئ يستطيع أن يؤول النص ويفرض عليه دلالات ومدلولات تناسب الزمان والمكان وحالة التلقي ذاته.
فالرواية حين تتعرض للملحمة الكونية وتتخذ أسماء وشخوصاً تقترب من الرسل أو من الذات الإلهية فإنها مجرد أطروحة فنية ومحاولة أدبية لفك شفرات الوجود والكينونة والبشرية، ولكن محفوظ لم يكن يعني المباشرة الشديدة الرمز حين ذكر «الجبلاوي» فتصور الجميع أنه يقصد الله عز وجل، لأنه بكل بساطة يجعله بشراً يموت في نهاية الرواية.
وهذا أمر لا يقبله عقل بشري قاصر على الوصول الى الحقيقة المطلقة، ومن ثم فإن جميع شخوص الرواية مجرد شخصيات خيالية رسمها الكاتب في عالمه الأبي وحاكها وبعث فيها الروح الأدبية لتعبر عن رؤيته الفلسفة في القضايا الجدلية عن الحق والعدل والخير والحب في مقابل الظلم والقهر والشر والكراهية فكانت الشخصيات ترمز الى حقب زمنية وإلى معانٍ روحانية وتستلهم المقدسات في تداعي فلسفي يحتمل الشك واليقين ولكنه أبداً لا يفقد بوصلة الإيمان.
إذاً الرواية في بنائها الأدبي سرد قصصي يحوي الحكايات المتناثرة ذات الأحداث المتتالية والشخوص المتفردة في تواجدها وتصورها فليست الشخصيات هي ذاتها انعكاساً لمرآة الرسل والأنبياء لأن التركيبة الشخصية والنفسية والعقلية مختلفة عن الحقيقة الدينية التي ذكرتها الكتب السماوية ولأن الاحداث ليست متطابقة مع ما ذكر في القرآن لتنصهر في العمل الادبي ولتسهم في رسم الحدود الجغرافية والتاريخية لتلك الشخصيات الاسطورية الملمح الروحانية الرمز، الفنية البناء، الفردية الوجود من همام وقابيل وأميمة وهند وجبل ورفاعة الى قاسم وعرفة

وعواطف وحنش وإدريس وقنديل والجبلاوي، إذ إن المدخل النقدي لهذا العمل الادبي يعتمد على التناول الفني لموضوع استلهم بعض شخوصه وأحداثه من نصوص دينية بالأخص القرآن الكريم.
ولأن العمل الفني غايته الارتقاء والسمو بالمشاعر والفكر والوجدان وهدفه الأسمى أن تحيا البشرية في عالم أكثر إنسانية حيث الإخاء والمحبة والسعادة وحيث العدل والحق والقوة المشروعة من أجل الحب والسلام والمساواة فإن هذا العمل ينتهي نهاية إيمانية تدعو الى العقيدة الراسخة والايمان وتثبيت الايمان في العقول والقلوب معاً، فحين يموت الجبلاوي بعد مؤامرة عرفة وعواطف يحدث الخلل الكوني في الحارة ويكون الجميع في توجس ولا يكون إلا الموت بديلاً عن الحياة الى أن يدعو الراوي الى «لابد أن يكون للظلم من آخر، والليل من نهار ولترين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب».
هنا على المتلقي أن يقرأ أعمال محفوظ الروائية في ثوبها الفني والأدبي كدعوة الى إعمال العقل والتفكير في الانسانية والوجود ونبذ الطغيان  والعنف والبحث عن الحب والسعادة والنور، فلا نعرف لهما من مصير محتوم.. حتي أعمال محفوظ التي تصور جوانب من المجتمع المصري وبعض سلبياته فهي في قالبها الفني هرم ملحمي تتسلل بداخله روائح التاريخ الانساني وتعطره أسرار الوجود وبدايات الصراع البشري على الأرض والتي يكتنفها الطغيان السياسي والتسلط ويجتاحها في الكثير من الأحيان الظلم والفساد الى أن تخرج طاقات البشر ورسالات الحق والخير والعدل والمحبة والإخاء وتنشر الإيمان والسلام والجمال والنور الإلهي. إن قضية المنع أو الاتهام بالكفر لكاتبنا العالمي نجيب محفوظ هي نوع من الارهاب الفكري الذي يعود بالبشرية الى عصور الظلام ومحاكم التفتيش فابداع محفوظ وغيره من المبدعين لا يزدري الدين ولا يحض على الفجور والفسق ولكن الإبداع هو دعوة الى الايمان ومن ثم الى الإنسانية، فلماذا ذلك الجدل ولماذا هذا المنع والقهر.. فمتى نرى بلاد النور والعجائب التي يدعو إليها كل مبدع حقيقي.

د. عزة أحمد هيكل