رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الإدارة برَدّ الفعل

درجنا على أن نقرأ ونسمع من الإخوة المتخصصين فى علوم الإدارة عما يسمى بالإدارة بالأهداف، والإدارة العلمية...إلخ، ويبدو أن هناك نوعا آخر ليتهم يضيفونه إلى أنواع وأنماط الإدارة نسميه بالإدارة برد الفعل، وهو ما تكشف عنه إدارة مصر فى الشهور الأخيرة، فماذا نقصد بذلك؟

لعل من الفروق التى تميز بين المجتمع المتقدم والمجتمع المتخلف، أن المتقدم عادة ما يحرص المسئولون عنه على رسم سيناريوهات محتملة للمستقبل، حيث أن «الحاضر» فى واقع أمره يكاد يكون نقطة وهمية فى طريق الزمن الذى نتصوره يجمع بين ماض، وحاضر ومستقبل، لأن اللحظة الراهنة، سرعان ما تمضى لتصبح ماضيا، وخاصة فى هذا العصر سريع الإيقاع، متنامى الحركة، ولما كان الماضى قد «فات»، ولا نستطيع أن نعيده لنصلح ما كان، يكون التركيز على المستقبل، حيث إنه لم يأت بعد.
لكن، من يعرف ما سوف يكون عليه المستقبل؟ ألسنا نردد دائما أن المستقبل فى علم الغيب، ومن ثم شاع القول بأن محاولة التنبؤ بالمستقبل هى عملية رجم بالغيب؟
ومن شدة ولع الإنسان بمحاولة ما تخبئه له الأيام القادمة، ابتكر ما عرف باسم «التنجيم»، والذى أصبح غير مستحب دينيا، على أساس أن الغيب لا يعلمه إلا الله؟
لكن العلماء أدركوا منذ عدة عقود أن من الضرورى التحسب للمستقبل، واستشراف آفاقه وخطواته، دون أن يعنى هذا كسر قاعدة أن الغيب لا يعلمه إلا الله، فالعلماء هنا لا يستطيعون أن يحددوا ما سوف يحدث على وجه اليقين والدقة، لكنهم يقولون بعدة احتمالات، وهى ما سمى «بالسيناريوهات»، فماذا يمكن أن نقوم به إذا حدث كذا؟ أو كذا؟ أو كذا ؟ إلى غير هذا وذاك من احتمالات، بحيث إذا حل احتمال من هذه الاحتمالات، لا نفاجأ به، ولا نكون غير مستعدين لمواجهة ما يحمله.
وعندما تحلل أسباب النصر الكبير للقوات المسلحة المصرية فى أكتوبر 1973، سوف تجد، من أبرز هذه الأسباب، هو ما تم من «مفاجأة» الإسرائيليين، وبالتالى فقد كشف هذا عن أنهم لم يفرضوا احتمالا بما حدث، فارتبكوا، وذاقوا مرارة الهزيمة.
ولعل من أشد الأمور فداحة مما نعانيه منذ بدايات ثورة يناير، هو افتقاد الرؤية المستقبلية، وزاد الطين بلة أن القوة التى تدير البلاد، لأنها تفتقد مثل هذه الرؤية، أصبحت الأحداث تداهمها من حين لآخر فتسرع بالاستجابة كرد فعل، ولأن هذه الاستجابة لا تجىء خطوة محسوبة، ضمن عدة خطوات ترسم لما سوف يحمله المستقبل، تحدث احتجاجات، فيسارع القادة إلى رد فعل آخر، ربما لا يتسق مع رد الفعل السابق، وربما يناقضه، فتكون المحصلة بطء التقدم، على أحسن الأحوال، والخسارة فى أحيان كثيرة!
ولعل ما ساعد على ذلك هو «ظرف الثورة ذاته»، فلم تكن هناك قوة تعمل وتخطط لقيامها، لها قيادة تملك تصورات مستقبلية، وإنما هى حدثت مثلما تحدث البراكين، محدثة انفجارا، وإن كان الفرق هنا هو أن الانفجار الثورى هو ما تمنيناه، وهو ما أسعدنا إلى أقصى ما يمكن تصوره.
حتى القيادة العسكرية التى تولت أمر تسيير البلاد، لم تكن مهيأة لهذا، وبالتالى لم تجهز تصورا لما يجب أن تكون عليه مصر، والخطوات اللازمة لذلك.
كنا سعداء أن لم تقم بالثورة جهة بعنيها، ولا قادها زعيم بذاته، لكن هذا الذى أسعدنا، إذا به يشقينا الآن، وكان يمكن أن نتحسب له منذ أن سقطت رموز النظام..
صحيح أن «الإعلان الدستورى» استهدف تحقيق شىء من هذا، برسم معالم الطريق مستقبلا، لكنه كان يحتاج إلى بعض الوقت لتوفير مناقشته بين مختلف الفئات والشرائح والقوى. صحيح أن برامج «التوك شو» تولت هذا، قبل الاستفتاء على الإعلان، لكن هذه البرامج استولت على معظمها فئات بعينها، تجيد صنعة الكلام، واستخدام البراهين والأسانيد والكلمات الساحرة، والعبارات الرنانة،

لكن هذا كان غير مجد وحده، مع التسليم بأهميته، بدليل أن نتيجة الاستفتاء سارت فى اتجاه ، يناقض كل ما رددته النخبة، حيث ثبت، كما كتبنا فى مقال آخر، أن هذه النخب، يبدو أن أكثرهم كانوا يحدثون أنفسهم، وليست لديهم المهارة والقدرة على مخاطبة ملايين من عموم الناس، والاشتباك مع همومهم.
كان المصرى قديما يخضع لتقلبات الأحوال الخاصة بنهر النيل، يقف أمامها مستسلما لظروفه، حيث قد يفيض فيغرق الحرث والنسل، وقد تشح مياهه، فيجوع الناس، حتى يضطروا إلى أكل الميتة والحيوانات ، كما تحفل بذلك كتب التاريخ المصرى، لكن، العقلية العلمية، بفضل ما أحدثته من تقدم وتطور، مكنت المصرى أن يتحكم هو فى نهر النيل، بدلا من أن يتحكم النهر نفسه فيه، وكان ذلك كله قائما على الفكرة نفسها: «التحسب» لما يحمله المستقبل من احتمالات، فإذا حدث شح فى المياه، هناك حل لذلك، وإذا حدث فيضان، فهناك سبيل لمواجهته، بل والاستفادة منه.
ولعل أبرز مجال يوضح سياسة القيادة المصرية فى الفترة الحالية من الاعتماد على الإدارة برد الفعل هو هذا الذى يحدث، نتيجة حشد المليونيات فى ميدان التحرير من أسبوع إلى آخر، حتى شاع اعتقاد راسخ بين الناس القول «إنهم لا يأتون إلا بهذه الطريقة»، أى لولا المليونية كذا، لما ظهر القرار كذا، ولولا المليونية كيت ، لما رأينا القرار كيت.
إن إدارة بهذا النهج، تساعد، من غير قصد، على ألا يكون هناك اتساق بين القرارات، لأن كلا منها جاء لإرضاء مجموعة من الناس، لا كل الناس.
وهكذا أصبح السؤال الأكثر ترددا على ألسنة الناس: إلى أين نحن ذاهبون؟!
ونحن صغار، كان هناك موضوع فى كتاب «المطالعة» يحكى عن ابن أسرة فلاح، أرادت أمه أن ترسله بكم من الزبد إلى أبيه، فلما وصل، بعد سير طويل مد يده إلى جيبه، حيث وضع الزبد، فإذا بالزبد قد ساح، فقال له أبوه ، يا بنى إن المفروض أن تحمله على يدك. وفى يوم آخر، أرسلت معه أمه خروفا أيضا إلى أبيه، حيث يفلح الأرض، فأراد المسكين تنفيذ النصيحة السابقة، من غير تحسب لاختلاف الموقف، فحمل الخروف على يديه، حتى وصل إلى أبيه لاهثا يتصبب عرقا، فقال له أبوه : يا بنى كان من الفروض أن تربطه بحبل وتجره. وفى المرة الثالثة أرسلت أمه معه «بطة»، فنفذ الابن النصيحة بحذافيرها، وربط البطة بحبل، حتى إذا وصل إلى أبيه وجدها قد اختنقت!!