رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

واقعٌ غيرُ أكيدٍ

قال لي: لماذا تبتسم؟ فقلتُ: لأسرِّب لك أنني سعيد جدًا بالحياة هنا.. فقال لي: ولماذا تخدعني إذ تعرف أن الحياة هنا ليست تسعد أحدًا؟ فقلتُ: لأحميك، ولو بقناع السعادة المزيفة، من كآبة المنظر وقتامة الخاطر وقلق الضمير وتلوث الحلم.

فقال لي: ولكنني لست مكتئبًا للحد الذي أتخذ فيه من زيفك بابًا للسعادة.

فقلتُ: جرّب ثم احكُم.. سأحكي لك قصتي مع الابتسام المجاني والسعادة المتخيَّلة..

كان بين جيراننا شخص شديد السّخف، وكان أبي يُفرط في الإعجاب به - في تصوّري- ليغيظني بهذا الحبّ المفتعل، فيدعوه إلى الشاي كلما مر ببيتنا أو لكي يحكي لنا نوادره وأساطيره وبطولاته، وكان هذا السخيف سالف الذكر لا يتوانى عن سرد حكاياتٍ خرافية وكرامات شجاعة لا تليق بمن هو في قامته المثيرة للشفقة ولا تليق بحَوَلِ عينيه المثير للاشمئزاز، وزاد من كراهيتي له ما سمعتُه عن تاريخه الأسود، فهو معروف بين من عاصروه بأنه «حرامي»، تخصص في سرقة البط..

ودُهِشتُ من الصورة، التي رأيتُ عليها حرامي البط، فهو لا يبدو عليه الآن ما يحكونه عنه، لكن الجميع أكد أنه لص وغير مؤتمن، وأكدوا أنه بعد علم الناس به كممارس لكل أنواع اللصوصية، وذاع صيته فتجنبوه وسدوا عليه باب رزقه بالاحتياط وبناء سور عالٍ من الحذر في وجهه، وقالوا إنه وجد أشياء مربحة أكثر من السرقة.. لقد عرف الحرامي طريقه أخيرًا فارتدى جلبابًا أبيض وطاقية بيضاء وأطال ذقنه وحفَّ شاربه واعتاد المسجد حتى يشهد الجميع له بالوقار من باب "غاية الدين أن تُحفوا شواربكم"..

وتدريجيًّا نسي الناسُ، أو تناسوا، صورته القديمة كحرامي للبط، لأن "آفة حارة النسيان"، مثلما قال العم نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا"..

ولا أعلم لماذا أشفقتُ على الحرامي حين عرفتُ أنه بذل مجهودًا كبيرا ليبدو أمام الناس حسن السّمعة طيّبَ الخلق صالحًا ومُصلحًا للآخرين، فرقَّ قلبي إلى حاله، وأعترف أنني تسرَّب إليَّ إحساسٌ ما بأنه لا بدَّ من مجاملته بابتسامة كمكافأة على كذبه وشطحاته في تأليف الشجاعات والتزامه بأخلاق مستعارة، ولم يكن الأمر مجرد موقف إنساني مني تجاه الحرامي، لكنني أيضًا وجدتُها فرصة لأردَّ كيدَ أبي وأبلغه أن أمر استضافة اللص ودعوته على الشاي لم يعد يغيظني، بل يمتعني، فصرتُ كلما حكى حرامي البط – الشيخ حاليًا- أضحك، بل تأخذني نوبة صرع فكاهي إلى أن صدّقتُ بالفعل

أنه مضحِك ودمه أخف من الريشة..

فقال لي الصديق: إذًا أنت تريد مني أن أبتسم على أي شيء لأفرح حتى لو لم يكن مضحكًا؟.. فقلتُ: ولم لا؟ فردَّ: سأروي لك موقفًا من مواقفي مع سعادة القناع..

كان من بين جيراننا شخص محبوب، غاب عن أبنائه وزوجته سنواتٍ طويلة قضاها في جمع المال لهم، لكنه لظروفه سياسيا وماليا في البلدة الأخرى بالإضافة إلى حنين يكسّر وجدانه، قرر أن يعود ليرى من تركهم أطفالا كبروا رجالا طوالا وأعرض من الباب، لكنه فُوجئ بتآمر جميع من حوله عليه بعد عودته، إذ أقنعته زوجته بأنه لا بد أن يطلقها لكي تستطيع الحصول على معاش أبيها، وادَّعت أن حياتهما الزوجية مستمرة، ونجحت خطة خداعها له، فتخلصت منه وطردته من البيت دون سبب واضح، وأخذت بيته بالأولاد، الذين ساعدوا أمهم على طرد أبيهم من بلده الذي عاد إليه ليموت على ترابها في أواخر أيامه، واضطر المذكور بعد المؤامرة إلى الرحيل، كما اضطر في سنوات عمره المتأخرة إلى أن يعمل كحارس أمن لإحدى العمارات في ضاحية من ضواحي العاصمة بعد أن كان يُعامَل معاملة الملوك الفاتحين..

ضاق به الحال وحل به المرض ومات غريبًا بين أهله ولم يمش في جنازته إلا غرباء..

فقلتُ للصديق: أنت مقتنع فقط بأنني مخادع أريد لك الشر بتسريب سعادة مزيفة..

فقال لي: إن قصدتَ ذلك أو لم تقصد فأنت تقودني إلى الهلاك لا محالة..

فقلتُ: لكنني أحبك وأريد لك الخير وصلاح الحال..

فقال لي: لكن هذا الحب لا يبدو لي كما يبدو لك.